لا يمكن الجزم بما انتهت إليه معارك قرية مرجة الأفغانية بين قوات الناتو ومقاتلي طالبان. فالإعداد للعملية العسكرية وما صاحبها من تصريحات أمريكية كان يشير إلى ضخامة التحرك إلى حد الرغبة لإنهاء المعركة لصالح القوات الغربية، وبشكل حاسم. لكن ومع استمرار المعارك لفترة تقارب الشهر جعل المراقبين في شك من بلوغ الهدف. والبيانات الصادرة عن قادة العمليات الأمريكية تعطي انطباعا عن وجود مصاعب جمة ومقاومة شرسة عن البلدة. وحتى إعلان سقوط البلدة جاء على شكل رفع العلم "الأفغاني" وسط حشود قليلة بعثت الشك في كون أن المكان هو "مرجة" حقيقة. وأن اختيار العلم الأفغاني جاء للتغطية على فشل الحملة لإخضاع إقليم هلمند قلعة المقاومة التي تنطلق منها طالبان لتحرير البلاد. وسواء دخل الناتو البلدة أم لم يدخلها، فإن ثمة حقائق تفرض نفسها على مشهد الأحداث، حتى ولو بالغ الناتو في التعمية الإعلامية عما يحدث من جرائم. هذه الجرائم ضد الشعب الأفغاني مستمرة تحت غطاء مطاردة طالبان، بينما هي تقوم بأشرف مهمة وأنبل واجب وهي تحرير البلاد من قوة أجنبية غاشمة وظالمة وتحتل البلاد بغير وجه حق ولا شرعية. هذه حقيقة لايمكن تجاوزها، أو استغفال واقع أصبحت فيه الحركة أكبر من محاولات الاستئصال أو كسر الظهر. طالبان اليوم حركة تؤثر في مسار الأحداث ولها امتدادها الجغرافي في الأرض الأفغانية والباكستانية. والتاريخ بيد الحركة الآن، لا بيد الغزاة الغربيين الذي صار وجودهم على الأرض الأفغانية عاراً على الإنسانية. طالبان اليوم هي مفتاح القضية، ولا استقرار لأفغانستان إلا عن طريقها. هذه البدهية يؤكدها تاريخ أفغانستان القريب كما البعيد. ولقد رضع الأفغان منذ عهود التاريخ رفض الأجنبي، من الشمال ومن الشرق. لم يقو الروس في عز جبروتهم ضم أفغانستان إلى الإمبراطورية السوفيتية في الثلاثينات من القرن الماضي. والبريطانيون فقدوا جيشاً كاملا قوامه 17 ألف جندي بريطاني وهندي لدى محاولتهم احتلال أفغانستان في القرن الماضي. لم ينجُ من الجيش إلا الطبيب الانجليزي كارينجي، تركوه يعود إلى الهند ليروي هول المذبحة التي ما تزال تدك ذاكرة البريطانيين والهنود على السواء. وفي المحاولة الدامية التي اقترفها الاتحاد السوفييتي في الثمانينات الماضية ضد أفغانستان، عاد الروس ليس بالهزيمة، وإنما ببذور انهيار الاتحاد السوفييتي نفسه والذي تحقق بالفعل في بداية التسعينات، وبالضبط بعد ثلاث سنوات من خروجه من أفغانستان. ويا للمفارقة، فقد كان قرار الخروج من أفغانستان بعد ثماني سنوات من الاحتلال والتدمير. وبعد أيضاً معركة "جاجي" التاريخية التي حشد فيها الروس نخبة النخبة في الجيش الروسي بغية سحق قوات المجاهدين. لكن المعركة جاءت بنتائج عكسية فادحة عجلت بالخروج النهائي. المشهد اليوم ليس بمختلف عن مشهد الأمس. مرجة هي الشقيقة الصغرى لجاجي. والحشود العسكرية للناتو لا تقل جهوزية عن استعدادات نخبة الجيش الروسي. وكل الدلائل السياسية والعسكرية تصب لصالح طالبان. والبقاء في أفغانستان مكلف للغاية على صعيد الخسائر في المعدات والأرواح. والشعوب الغربية بدأت تضج من كلفة الحرب. وما النصر إلا صبر ساعة. وطالبان لا يهمها الوقت بقدر ما يهمها رحيل الغزاة، تماماً كما تعلموا من آبائهم. ومن الغريب أن تكون هزيمة الناتو والأمريكيين أقرب من هزيمة طالبان في هذه المواجهة. وهكذا يمكن القول إن أفغانستان تعيد صياغة التاريخ، وربما وهذا المخيف للغرب أن تكون سبباً في تغيير الجغرافيا أيضاً. فتكون طالبان في القوس الآسيوي المشدود في أفغانستان وباكستان وربما تمتد لأبناء عمومتهم إلى بلوشستان. • أستاذ الإعلام السياسي – جامعة البحرين