يعقد الأستاذ "رميح" فى ورقته "ثورات الربيع" رؤية مستقبلية لخريطة صراع فكري، مقارَنة بين الحالة الفكرية قبل الرَّبيع وما بعد الرَّبيع، فتحدث عن اتجاهات الضَّغط الفِكرى فى الحالة الأُولى، والتى قَصد بها قضية مظلومية الشيعة، وما فجَّرته من صراعات فى العراق ولبنان واليمن، فضلاً عن قضايا الشيعة والتشيع، والتى تزامنت مع الضغط الأمريكى المتصاعد على النُّظم والمجتمعات العربية بدءًا من سبتمبر 2001م، والذى كان مساندًا للتَّحركات التى شهدتها بلدان المنطقة، سواء من قِبل الشيعة أو من قِبَل مجموعات لِيبراليَّة ويَساريَّة قويَّة، فى حين كان الإسلاميون - وكالعادة - فى دائرة التَّهميش والاستهداف، وهو ما كانت - وفق رُؤية "رميح" - سببًا فى أن تجرى اهتمامات فكريَّة لدى الحركة الإسلامية حول قضايا الحريَّات والديمقراطية وحقوق المرأة وحقوق الأقلِّيات وحقوق الإنسان، كما كان سببًا فى أن تدعم بعض التيارات السُّنِّيَّة والقومِيَّة المشروعَ الشِّيعى الطائفى - ولو سياسيًّا عند البعض - ليس استنادًا لقوة إيران فى المركز فقط، بل إلى نمط متصاعد من التحالف الدولى مع روسيا والصين. أما فيما يتعلق بهذه الحالة بعد الربيع العربي، فيرى "رميح" أن أهم مَلامح الحراك خلال ثورات الرَّبيع تتلخص فى تَبَلور الانقسام الفِكرى داخل النُّخَب والقُوى السياسيَّة والمجتمعية، وتمدد هذا الانقسام إلى عُمق نخب جَديدة، وهَيمنة الصِّراع الأيديولوجى العقائدى على القَضايا المطرُوحة على الجمهور خارج أطر النُّخبة والكتب والبحوث والدراسات، بل فى الإعلام. والحقيقة أن شكل الحالة الفِكرية قبل الرَّبيع العربى مُشابه إلى حدٍّ كبير للحالة الفكرية بعد الربيع؛ إذ هو لم يخرج عن حالة الاصطفاف بين تيارَين: أحدهما إسلامي، والآخر علماني، وإن كان ثمَّة فارق يمكن اعتباره، ألا وهو اشتداد حِدَّة هذا الصراع بعد ربيع الثورات؛ إذ أصبحت عملية الاستقطاب أو الاصطفاف واضحة بلا مُواربة أو حسابات، التى كان يراعيها التيار العلمانى قُبيل ربيع الثورات؛ إذ كان يحرص على أن يبدو وكأنه يدافع عن حقوق الإسلاميين المُهدرة، ليس من منطلق الاتفاق الفكرى مع الإسلاميين، ولكن من مُنطلق إيمانه بحقهم فى الوجود والحياة، وهو الادعاء الذى تكشَّف زيفُه، كما ذكرنا فى الحلقة الثانية من مقالنا. وبِناء عليه؛ فإن مَسار الصِّراع الفكرى تحوَّل من طَوره النَّظرى إلى طوره العملى، بعد أن أصبح الإسلاميون فى الحكم، أو بالأحرى بعد أن أصبح أحد فصائل الإسلاميين فى الحكم، ومن ثَمَّ فقد قدِّر لبعضِ أطروحاتهم أن تكون على المحكِّ فى أرض الواقع، فإمَّا أن تنجحَ ويُثبت القائمون عليها صدقها وقدرتها على تحقيق النهضة والتنمية الشاملة، وإما أن تفشل هذه الأطروحات، وساعتها لن يكون فشلًا لهذا الفَصيل الحاكم فَحسْب، وإنما سيكون فشلًا لكل الفصائل الإسلامية، وهو ما سيمثل ضربة قاصمةً للجميع، الأمر الذى يدفعنا للإشارة لنقطتين مهمَّتَين: الأولى: أن أمر التعاون بين الإسلاميين، ووجوب تقديم الدَّعم من بقيَّة الفصائل الإسلامية للفَصيل الذى وصل للحُكم - بات أمرًا وجوبيًّا وليس اختيارًا، ولا يَعنى ذلك أن يَتم تقديم السياسى على الفكري؛ وإنما المقصود هو أن تولى الحركَة الإسلاميَّة اهتمامًا مُتزايدًا بالمسألة السياسية وفق أولويات المرحلة؛ لتفادى تهاوى المشروع الفِكرى الإسلامى برُمَّته، وهو أمر سيمثلُ خطورةً على الجميع. الثاني: أن جميع الأطراف الإسلامية مُطالَبة بالدُّخول فى حوار بَينى لتقريب وجهات النَّظَر، وتحقيقِ أكبر قدر من التوافق الفكرى والحركي، الذى يفترض أن ينعكس فى أشكال عملية، كالتنسيق الواسع بين الإسلاميين فى الانتخابات البرلمانية والمحليات وغير ذلك. الأمر الآخر والمتعلق بمسألة الشيعة والتشيع: هو أن هذه القضية لم يَعد فقط أمر الضغوطات الخارجية المتعلقة بها هو الجانب الأهم فيها، بل إن المسألة تعدَّت إلى كونها أحد قضايا الاستقطاب داخل الصف الإسلامى بعد أن تباينت المواقف الإسلامية من التعاطى مع القضية، فكان من بين الإسلاميين من اتخذ موقفًا مُتقاربًا مع إيران بدعوى توحيد الصف الإسلامى فى مواجهة التحالف الأمريكى الصهيوني، ومن ثَمَّ غض الطَّرْف عن بعض السلوكيات والسياسات التى تمارسها إيران فى المنطقة؛ باعتبار أن ذلك من باب الخلاف السياسى الناتج عن تعدد الاجتهادات. وفى المقابل فإن أطرافًا إسلاميَّة اتخذت - وما زالت - موقفًا حَذرًا ومتحفِّظًا تجاه الكثير من السياسات الإيرانية، التى تمثل تناقضًا صريحًا وفجًّا مع ما تدَّعيه "طهران"، فهى - مثلًا - لا تَفتأ تُعلن مرارًا وتكرارًا عن دعمها وتأييدها للمقاومة الفلسطينية ولفصائل المقاومة، فى الوقت الذى كانت القوة الرئيسية وراء ذبح وطرد الفلسطينيين فى العراق، أو الوقوف بالمرصاد أمام الشعب السورى الثائر ضد نظام بشار الأسد المستبد. لكننا وبغض النظر عن تقييم هذه المواقف الإيرانية؛ فإن الشاهد هو أن مستقبل العلاقات البينية فيما بين أطراف الحركة الإسلامية أصبح مرهونًا أيضًا بالموقف من إيران، الذى سيكون أحد محددات مسار مستقبل الصِّراع الفكرى العربي، بعيدًا عن مستقبل العلاقات الأمريكية - العربية، ومدى ما يمكن أن تشهده الأيام المقبلة من حالة استقلال سياسى واقتصادى من التبعية، التى كانت الحالة البارزة قبل الربيع العربي، وهو ما يدفعنا إلى القول بأن إيران باتت بذاتها ملفًّا خاصًّا يجب فتح المناقشات الجادَّة حوله؛ حتى تتضح للإسلاميين رؤيةٌ متقاربة بشأن الموقف إزائه.