يُثير الأستاذ طلعت رميح في ورقته "ثورات الربيع.. رؤية مستقبلية لخريطة صراع فِكريٍّ" نقطة في غاية الأهمية بشأن الحديث عن الصراع بين الإسلاميين وغير الإسلاميين؛ إذ يرى أن ركيزة هذا الصراع كانت حول تثبيت المشروع الإسلامي في الدولة والمُجتمَع في مُواجَهة المُحاوَلات المُستميتة لقُوى داخليَّة مستندة إلى قوى خارجية تُحاول تثبيت المشروع الغربي في آخر صور، ونَماذج توطينه في داخل دُولنا ومجتمعاتنا، لافتًا إلى أنه في الوقت ذاته يُصارِع المشروع الإسلامي نفسَه حول ما تأثر به وأثَّر فيه مِن الفكر الغربي، وجهالات مرحلة تغيُّب المشروع الإسلامي. لكن ثمَّة مسألة أخرى غفل عن ذكرها الأستاذ رميح تتعلَّق بطبيعة المشروع الإسلامي؛ فالصراع الدائر الآن ليس صراعًا مُنحصرًا بين مشروعَين، أحدهما إسلامي والآخر تغريبي، يتضمَّن كلٌّ منهما برنامجه الخاص الذي يُميِّزه عن الآخَر، والذي يَستند إلى مرجعيَّة فِكرية مُحدَّدة؛ فهذا هو الصراع في شَكلِه البسيط، والذي كان أبرَز نتائجه خلال العُقود الماضيَة وجود حالة مِن الاستقطاب بين طرفَين، أحدهما إسلامي والآخَر غير إسلامي، يُعلن كلٌّ منهما عن رؤيته بلا مُوارَبة، ما كان يُسهِّل عملية قراءة الخَريطة الفِكرية والأيديولوجية في مصر والعالم العربي، أما الآن فقد اتَّسمت الأوضاع بالكثير من التركيب والتعقيد بعدما تزايَدت التساؤلات حول ماهيَّة المشروع الإسلامي نفسه، في محاولة مِن قِبَل البعض بالحديث عن عدم وجود هذا المشروع من الأساس، وأنه مُجرَّد خطوط عامَّة لا ترقى إلى أن تكون برنامجًا قادرًا على أن يُدير دولة. ويَنسجم مع هؤلاء - بكل أسف - بعض الأطراف المَحسوبة على الإسلاميين ممَّن قدَّموا السياسي على العَقائدي؛ فكانت مواقِفهم السياسية - في إطار ما يُسمَّى بالتوافُق السياسي واستِرضاء المخالفين - مواقف تَحمِل الكثير من الميوعة الفِكريَّة التي تجاوَزت بهم حدود العديد من الثوابت الفِكريَّة، التي تُشكِّل ملامحَ أصيلة في المشروع الإسلامي، وهو ما زاد الطين بلَّة؛ إذ كانت المُحصّلة النهائية أن الإسلاميين أنفسهم غير متوافقين على هذا المشروع الذي ما فتئوا يتحدَّثون عنه. من ناحية أخرى فإنه لم يعد من المُمكن النظر إلى التيار غير الإسلامي باعتباره كتلةً صمَّاء بعد أن شهد هذا التيار حالة مِن الحراك الفكري - المُستغرِب - في داخله؛ إذ كان من بينه أطراف عديدة لا تتوقَّف عن أن تُردِّد أن ما تَطرحه من مشروع لا يتعارَض مع الإسلام؛ بل إنه يعبّر عن الفهم الصحيح للإسلام بعيدًا عن الرؤى المُتطرِّفة، ومِن ثَمَّ فهو الذي يمثِّل صحيح الإسلام وحقيقته، مُستخدِمين في الدفاع عن أنفسهم ضدَّ المعسكر الإسلامي سلاح الإرهاب الفِكري؛ حيث يُبادرون دائمًا بالقول: إن الإسلاميين لن يسترضيهم ما يَطرحونه، وأنهم يَعتزمون تكفيرهم وتخوينهم واعتبارهم طابورًا خامسًا كعملاء للأعداء، وهو السلاح الذي لا جدال في أنه نجَح إلى حدٍّ كبير في وقف عمليات كشفِهم وفَضحِهم؛ بل وقلب الطاولة على الإسلاميين واتِّهامهم بالجمود والتخلُّف، وأحيانًا بالتآمُر على البلاد. وقد وجَد هؤلاء في الإعلام الوسيلة الأفضل والأخطَر لترويج بضاعتهم الفاسدة، كما وجَدوا بُغيَتهم في الزلات والأَخطاء التي أصابَت المَشروع الذي رفعَت لواءه بعض الأطراف الإسلامية، التي قُدِّر لها الوصول إلى سُدَّة الحكْم في بعض البلدان العربية؛ حيث مثّل هذا فرصةً سانِحة أمام هؤلاء للحديث عن الفَجوة الشاسعة بين ما يَطرحه هؤلاء وبين ما تطمَح إليه الجماهير، غاضِّين الطرف عن أن هذه الأخطاء تَعكِس سُلوك بعض التنظيمات الإسلامية وما لدَيها مِن حسابات سياسيَّة، أبعد ما تَكون - في بعض الأحايين - عن أبجَديَّات المَشروع الإسلامي. ولعلَّ قضيَّة الاستقلال مِن التبعية واحِدة من أهمِّ هذه القضايا، التي بَدا فيها أن ما يُطبَّق على أرض الواقع بشأنها مَفارق تمامًا لما كان يجَب أن يَكون عليه المَشروع الإسلامي، والذي يَعتبِر قضية الاستِقلال قضية عقائدية بحتةً تتعلَّق بالولاء والبراء، الذي هو أحد أصول الإيمان بالله - عز وجل. فالاستِقلال في المفهوم الإسلامي ليس مُتعلِّقًا فقط بالتخلُّص مِن بَراثن قوة مِن القُوى الإمبريالية للارتماء في أَحضان قُوَّة أُخرى، سواء على المستوى السياسي أو الاقتصادي أو حتى الفِكري؛ بل هو مُحاولة للتخلُّص مِن أيَّة تبعيَّة، مادية كانت أو فِكرية، وهي مسألة ليسَت موجودة إلا في الطرح الإسلامي الذي يوجِب على المسلمين بِناء قوتهم وحضارتهم في إطار قيمي خاصٍّ يُحقِّق مفهوم العبودية لله - عز وجل - وليس وَفْق نظرية من النظريات السياسية البشرية، والتي يَعني تَبنِّيها في النهاية انسياقًا خلفَ مُعسكَر مِن معسكرات القُوى. ويَعني ما سبق أن مهمَّة التعريف وتحديد المشروع الإسلامي ليست مهمَّةً سهلةً؛ إذ هي تتحرَّك على مُستويين: الأول: وهو الكشف عن ماهية هذا المشروع، وهي مسألة تحتاج لتضافر جهود كل المُخلِصين من مُختلَف التخصصات، ومِن ثمَّ حرص كل التنظيمات والمُكوّنات الإسلامية على أن تستفيض في شرح أبجديات المشروع، وتوضيح الثابت والمُتغيِّر منه، والمقاصد الشرعية والأهداف المَرجوَّة، وضمانات الالتزام به، وعدم الانحِراف عنه، فضلًا عن تحديد البُعد الزمنيِّ لتحويل النظري إلى عملي. الثاني: وهو التأصيل لأبجديات المشروع وفق المرجعية العُليا للإسلام المُتمثِّلة في القرآن الكريم والسنَّة النبوية الصحيحة، ومِن ثمَّ إثبات تهافُت كل مدَّعٍ يزعم أن ما يطرحه يتوافَق مع الإسلام، وهو ما يغلق الباب أمام الذين يزعمون أن ما يطرحونه لا يتعارَض مع الإسلام، وهو ما يَستلزم وجود حالة من التصالُح قدر المستطاع فيما بين القائمين على هذه التكوينات الإسلامية، وبين القائمين على المؤسَّسات الدينية والعلماء المخلصين مِن مختلف المدارس الإسلامية، بالإضافة إلى بذل جهود احتواء وتأليف قلوب الشاردين مِن أَبناء التيارات الإسلامية، الذين جنَحوا ومالوا نتيجة ظروف خاصَّة لمُعسكَرات فكرية أخرى.