على مدار يومَى السبت والأحد الموافقين 13 و14 من إبريل 2013م، استضافت العاصمة المصرية "القاهرة" مؤتمرًا ل "منتدى المفكِّرين المسلمين"؛ لدراسة مستقبل الثورات العربية تحت عنوان: "الرؤية الفكرية للأمة بعد الثورة العربية.. دراسة للواقع واستشراف للمستقبل"، بحضور العديد من الكتَّاب والسياسيين والمفكِّرين الإسلاميين من مصر وبعض البلدان العربية والإسلامية؛ حيث قدَّم خلالها المشاركون أوراقًا بحثية حول موضوع المؤتمر. غير أن ما استوقفنى هى الورقة التى تقدَّم بها الكاتب الصحفى المصرى "طلعت رميح"، والتى جاءت تحت عنوان: "ثورات الربيع العربي.. رؤية مستقبلية لخريطة صراع فكري"، فقد خصص الكاتب ورقتَه للحديث عن استشراف مستقبل العَلاقة البينية للإسلاميين فى ضوء الواقع الذى تَحْياه بلدان الربيع العربي، والذى تسيطر عليه حالةٌ من الاستقطاب السياسى والفكرى الحاد، خاصة بعد وصول بعض الأطراف الإسلامية للسلطة فى أغلب بلدان الربيع، ما ترتب عليه احتدامُ الصراع بين الإسلاميين وغير الإسلاميين من التيارات العلمانية؛ "ليبرالية، ويسارية، وقومية". وقد استهلَّ "رميح" ورقته بالحديث عن قدرية الفعل الثورى بالنسبة للإسلاميين، قائلاً: "إن مسلسل الثورات العربية جاء دون إعدادٍ مخطَّط مسبق من قِبَل الحركات الإسلامية، غير أن نشاطهم ودورهم فى المجتمعات قد وصل حد القدرة على فرض نفسه على أى تغيير يجرى فى المجتمع، وهو ما هيَّأ ظرفًا تاريخيًّا وصلتْ فيه الحركات الإسلامية إلى سدَّة الحكم". ومع اتفاقنا مع الأستاذ "رميح" فيما ذهب إليه، إلا أن هذه القدرية لم تكن بالنسبة للإسلاميين فحسب - والذين لا ينكِر أحدٌ دورَهم النضالى فى الوصول للحظة الانطلاق الثورى - لكنها أيضًا كانت مجهولة وغير واضحة المعالَم بالنسبة لغير الإسلاميين، الذين كانت لهم مشاركتهم الواضحة فى الفعل الثورى منذ البداية، وبشكل غير مخطط له، ومن ثَمَّ فإن الجميع لم يكن يتوقَّع لحظة الانفجار؛ إذ كانت شعارات الثوَّار، وبعد انطلاق العمل الثورى فى الخامس والعشرين من يناير، كانت لا تتجاوز سقفًا محدَّدًا يُدرِك الجميعُ أنه تغيَّر بعد أيام من ردَّة الفعل النظامى على الثوَّار فى ميدان التحرير ومحافظات مصر. يضاف إلى هذا أنه لا يمكن الحديث عن أفضلية تيارٍ على تيار فيما يخص تفجير الفعل الثوري؛ فمن اليوم الأول والجميعُ يشهد بمشاركة جميع الأطياف السياسية، بمن فيهم الإسلاميون، الذين تشهد المشاهد التليفزيونية ليوم 25 يناير أنهم كانوا فى مقدِّمة الصفوف، وأنهم كانوا أول مَن تعرَّض للمطاردات الأمنية فى شوارع القاهرة. ولا يفوتُنا أن نُشِير إلى أنه لم يكن ليُكتَبَ النجاحُ للثورة المصرية إذا انحصرت فى ميدان التحرير بالقاهرة، فالهزَّة العنيفة التى تعرَّضت لها الأجهزة الأمنية، والواقعة يوم الجمعة 28 يناير، والمسماة ب"جمعة الغضب"، التى خرجت فيها الآلاف المؤلَّفة من المتظاهرين فى أغلب محافظات مصر، هى ما اضطرَّت وزارة الداخلية إلى توزيع رجالِها على هذه المحافظات؛ ما كان سببًا فى خلخلتها وإفقادها القدرةَ على السيطرة على المتظاهرين. وهنا يُدرِك الجميع أن أغلب المتظاهرين فى المحافظات ينتمون للتيار الإسلامى بجملته، فالعناصر الليبرالية والناصرية واليسارية عناصر قليلة لا تستطيع - وحتى اللحظة - أن تحشد هذه الجموع الغفيرة التى انطلقت فى "جمعة الغضب"، وعليه فإن محاولات إنكار دور الإسلاميين فى استمرار شرارة الثورة ونجاحها هى محاولةٌ تجهضها الوقائعُ والأحداث لكل ذى بصيرة. الخلاصة أننا إن لم يكن جائزًا لنا القول بأن نجاح الثورة كان مرهونًا بمشاركة الإسلاميين، فإننا على الأقل نقول إنه لا يمكن لطرفٍ أن يدَّعى أنه مَن خطَّط أو مهَّد للثورة، وبالتالى فإن الجميع سواء فيما يخص هذه المسألة. واستدراكًا على ما سبق، يصبح أمرُ فوز الإسلاميين ووصولهم للحكم هو النتيجة الطبيعية للرصيد الشعبى للحركة الإسلامية، والذى تراكم عبر عقود من الزمن، قدَّمت خلالها الحركةُ الإسلامية الكثيرَ والكثير من التضحيات، فضلاً عن دورها المشهود فيما يخص الجانب الاجتماعى والأهلي، وهو ما جعلها نظريًّا وعمليًّا البديلَ الثورى لأنظمة الحكم الفاسدة والمستبدة، فيما كان غير الإسلاميين إلا من قلة قليلة أطرافًا مستفيدة من بقائها بجوار هذه الأنظمة، باعتبارها ممثلة للمعارضة، مع أنها لا تَعْدُو عن كونِها أدوات ديكورية تتجمَّل بها الأنظمة أمام شعوبها والمجتمع الدولي، كلما كان الحديث عن الديمقراطية والتعددية. فى هذا السياق، فإن الحديث عن صراع سياسى حقيقى بين طرفين، أحدهما إسلامى وآخر غير إسلامي، هو حديثٌ مبالَغ فيه؛ فالصراع غير متكافئ، إذا ما التزم بالشروط والمحددات الديمقراطية، وهو ما يفسِّر لجوء الأطراف المعارضة للإسلاميين إلى أساليبَ أخرى بعيدة تمامًا عن الآليات الديمقراطية؛ ما كان كاشفًا لحقيقة إيمانهم بها، وحقيقةِ موقفهم من المخالفين لهم فى رؤاهم وأطروحاتهم. ولهذا؛ فإننا يمكن أن نتحدَّث عن ثلاث مراحل من الصراع بين الإسلاميين وغير الإسلاميين: مرحلة كان فيها غير الإسلاميين فى السلطة، وبالتالى كانت لهم الهيمنة والسيطرة على أجهزة ومؤسسات الدولة، وقد استُضعِف الإسلاميون فى هذه المرحلة استضعافًا كبيرًا. فيما كانت المرحلة الثانية من الصراع عقب إسقاط نظام "حسنى مبارك"، وكانت بين طرفين يفترض أن كلاًّ منهما يراهن على رصيده ووجوده الشعبي، وهو ما كان فى صالح الإسلاميين. ثم مرحلة ثالثة لجأ فيها الطرف الضعيف - وهو غير الإسلاميين - إلى استخدام العنف وإثارة التوترات والقلاقل، والزيف والتشويه، من أجل حسم الصراع لصالحِه، بعدما أيقن هذا الطرف أن آليات الديمقراطية - التى طالما دندن بها - لن تحقِّق له ما يريد. ومَكمَن الخطورة فى هذا يتمثل فى أمرين فى غاية الخطورة: أولهما: يرتبط بتطورات الأحداث فى البلاد التى تعانى وضعًا بالغَ التردِّى على المستوى الاقتصادى والأمني، واستمرار هذا يعنى مزيدًا من التدهور الذى ستكون عواقبه وخيمةً على الجميع. وثانيهما: أن ذلك كفيلٌ بإيجاد حالة من الردَّة الفكرية - إن جاز التعبير - لدى بعض الأطراف الإسلامية التى قبلت بآليات الديمقراطية فى اختيار الحكَّام على مضض، ومن ثَمَّ فإن حسم الصراع لصالح الطرف العلمانى - الذى لا يتردَّد فى استخدام وسائل غير مشروعة سياسيًّا وقانونيًّا - سيكون دافعًا إلى أن تلجأ بعض الأطراف الإسلامية إلى العودة لقناعات فكرية قديمة كفيلة بأن تفجِّر الأوضاع فى البلاد. الصراع إذًا بين مَن يدافع عن الهُوِيَّة العربية والإسلامية، وبين جبهات متعدِّدة تريد إبقاء حالة التغريب التى أوجدها الاحتلال فى بلادنا العربية، هذه الجبهات يمثِّلها مَن يسمون بالنخبة السياسية والفكرية والإعلامية العلمانية، التى نؤكِّد مرارًا أنه ليس لها وجود حقيقى فى الشارع المصري؛ وإنما اعتمدتْ فى تضخيم ذاتها على المال السياسى الضخم الذى تنفقه بعض البلدان عبر هؤلاء، والذى كشفتْ عنه العديد من المؤسسات والهيئات الرقابية، حتى أنها أشارت فى أحد هذه التقارير إلى أن الإعلاميين وحدَهم تلقَّوا نحو 6.5 مليار دولار؛ بهدف الإثارة وتوتير الأوضاع.