في مارس من العام 1990 اختفى فجأة المعارض الليبي "جاب الله مطر" من منزله في القاهرة ، وكان من أشد المعارضين للعقيد القذافي إزعاجا ، وهو الأمر الذي أثار فزع أسرته ومحبيه ، فسافر نجلاه من لندن حيث كانا يدرسان إلى القاهرة للبحث عن والدهم ، وقابلوا حسب أقوالهم عددا من المسؤولين المصريين الذين أكدوا لهم أن والدهم في القاهرة وأنه قيد التحفظ لأنه تجاوز الحدود في معارضته للعقيد ، غير أن المفاجأة أن تم تسريب رسالة في العام 1993 من سجن "أبو سالم" في طرابلس العاصمة بخط يد "جاب الله مطر" إلى أهله يحكي لهم فيها ما تم معه في القاهرة ويقول أن مجموعة من رجال الأمن المصريين اقتحموا منزله في القاهرة واحتجزوه في مكان مجهول ، وفي اليوم التالي كان الرجل على مدرج أحد المطارات التي لا يعرفها أمام مجموعة من رجال العقيد القذافي تسلموه حيث حملته طائرة ليبية إلى طرابلس ، حيث اختفى عدة سنوات ، وأن المصريين "شحنوا" معه معارضا آخر ، وأنه تعرض للتعذيب البشع وأن كل ما كان يقرأه عن سجن الباستيل لا يساوي شيئا مع ما وجده في سجون العقيد ، وفي العام 1995 وصلت رسالة أخرى قبل أن تأتيهم رسالة أخيرة في العام 1996 تقول بأن أغراض والدهم ومقتنياته يتم بيعها داخل السجن ، في إشارة إلى أنه قتل ، حيث يرجح أنه كان ضمن الألف ومائتي معارض ليبي الذين أعدموا في ليلة مشؤومة من ليالي يوليو 96 ، يذكر أنه بعد واقعة اختطاف "جاب الله مطر" بعامين ، وفي العام 1992 كان المعارض الليبي المرموق "منصور الكيخيا" في زيارة للقاهرة لحضور اجتماع المنظمة العربية لحقوق الإنسان ، وفي ذكرى اليوم العالمي لحقوق الإنسان 10/12/1992 ، كانت أرض القاهرة قد انشقت وابتلعت المعارض الليبي الذي أزعج القذافي كثيرا ، واختفى "منصور الكيخيا" من فندقه ، ولم يظهر له أثر بعد ذلك ، لا في مصر ولا في ليبيا ، حيث يروج معارضون ليبيون راوية تقول أنه تم شحنه من القاهرة إلى طرابلس الغرب حيث قابله العقيد القذافي بنفسه وأهانه وقال له في شماتة "إيدي طايلة يا منصور" ، قبل أن يأمر بإعدامه ، والحقيقة أننا لا بد من أن نعترف بأن القاهرة هي العاصمة الأكثر أمنا لضيوفها من المعارضين واللاجئين ، وهناك أعراف أخلاقية وأمنية وسياسية استقرت في مصر بذلك ، وجعلت مصر في منأى عن أن تكون "حديقة خلفية" لأي جهاز مخابرات عربي خاصة أيام حروب التصفية الشهيرة التي انتشرت من الستينات إلى الثمانينات ، وكرامة مصر الأمنية لا يمكن أن تباع أو تشترى من قبل أي نظام سياسي عربي أو غير عربي في هذه الدائرة تحديدا ، لا أتصور ذلك ، لكني أستطيع أن أقول أن معارضي العقيد القذافي وحدهم هم الاستثناء في هذه القاعدة ، وهو ما يضع أكثر من علامة استفهام على هاتين الواقعتين ، ومن الصعب أن يفهم لزوم السلطات المصرية الصمت حيالها طوال هذه السنين إلا بأنه اعتراف بالورطة أو الخطيئة أو هما معا ، لم يصدر أي بيان رسمي أو توضيح لوقائع الاختفاء المريبة هذه لمعارضي القذافي من قبل القاهرة ، القضية رغم مرور السنين لم تمت ، لأن معارضين ليبيين في لندن تضامنوا الأسبوع الماضي مع نجل المغدور "جاب الله مطر" ، هشام ، وهو أديب مرموق الآن ومرشح لجوائز مهمة ، وكذلك أعلن قرابة ثلاثمائة أديب ومثقف عالمي كبير منهم حاصلون على جوائز نوبل وغيرها من الجوائز العالمية ، أعلنوا تضامنهم مع الأديب الليبي هشام مطر ، ونددوا بموقف الحكومة البريطانية التي أقامت علاقات مع نظام العقيد القذافي ، وقد شعرت بغصة وأنا أقرأ اتهام البيان للحكومة البريطانية بأنها "لطخت سمعتها بالعار وهي تتعامل مع النظام الليبي" الذي يهدر حقوق الإنسان إلى هذا الحد ، فإذا كان هذا رأيهم في حكومة كل تهمتها أنها أقامت علاقات مع ليبيا في ظل هذه الأحوال ، فما هو الرأي المتصور في الحكومة أو النظام المبتلى بفضيحة اختطاف هذه الأنفس البريئة على أرضه . [email protected]