لم يدع الله تعالى تصنيف الناس لأهواء البشر وعقولهم وانتماءاتهم، فحدد سبحانه ذلك في آيات متعددة في كتابه العظيم، وما يعيننا في هذا المقام هو أصناف الناس تحت مظلة الإسلام فقال عز وجل ((ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله))، يقول الإمام ابن كثير في تفسيره لهذه الآية "ثم جعلنا القائمين بالكتاب العظيم المصدق لما بين يديه من الكتب الذين اصطفينا من عبادنا وهم هذه الأمة ثم قسمهم إلى ثلاثة أنواع فقال تعالى: "فمنهم ظالم لنفسه" وهو المفرط في فعل بعض الواجبات المرتكب لبعض المحرمات" ومنهم مقتصد "هو المؤدي للواجبات التارك للمحرمات وقد يترك بعض المستحبات ويفعل بعض المكروهات "ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله" وهو الفاعل للواجبات والمستحبات التارك للمحرمات والمكروهات وبعض المباحات"، قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى "ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا" قال هم أمة محمد صلى الله عليه وسلم. وقالت عائشة رضي الله عنها حينما سئلت عن هذه الآية "فأما الظالم لنفسه فمثلي ومثلكم". فإن كانت عائشة رضي الله عنها وهي من هي في الفضل والسبق تعتبر نفسها من هؤلاء، فهل ينجو أحد في هذا الزمان من ذلك الظلم لنفسه؟. هذه القاعدة العظيمة تضبط أحوالنا وتعرفنا قدرنا وتخفض جناحنا وتطأطئ رؤوسنا حينما نتعامل مع الناس، وتذكرنا دائمًا بقول الله تعالى فيمن اهتدى "كذلك كنتم من قبل فمنّ الله عليكم"، فلا تعالى على البشر بدين أو خلق فهو محض منة وفضل من الله تعالى. فالناس تحت مظلة الإسلام سواسية ويتفاضل بعضهم على بعض عند الله بما في قلوبهم من التقوى، وهذا هو المعيار عند الله تعالى. والناس في الدنيا كلهم تحت تلك المظلة إخوان يستفيد بعضهم من بعض ويتعاونون ويتكاملون فيما بينهم، وهذا ما فعله رسول الله في استفادته من صحابته في مجالات مختلفة كالعسكرية والاجتماعية والاقتصادية وغيرها وإن تفاوتوا في سابقتهم للإسلام وفضلهم. بتلك الروح لا يقصى أحد في المجتمع وكل يكون له دوره المنوط به حسب كفاءته وتخصصه، وعطائه، فلا تحرم الأمة من كفاءات القادرين على الأداء والعطاء، وتسري بين الناس روح من الثقة المتبادلة، فلا تقسيم للناس كما نرى اليوم بين ما يسمى بأهل الثقة وأهل الكفاءة، فمن كان كفئًا قد لا يوثق فيه، ومن كان ثقة قد لا يكون عنده من الكفاءة ما يفيد به الأمة، بل ربما يكون وبالًا عليها ومسيئًا من حيث يريد أن يصلح لأنه غير مؤهل لذك الاصلاح في مجاله. ولو أن كل الجماعات والهيئات والأحزاب والحكام نظروا إلى عموم الناس تلك النظرة التي بينها الله في كتابه لم يصنفوا الناس هذا معي وهذا ضدي لا يكون حينئذ هذا الحاجز النفسي بين أتباع ما يسمى بالتيار الإسلامي على اختلاف تنوعه وبين التيارات الأخرى على تنوعها أيضًا، والذي قد يظهر بعد ذلك فرقة بين الأطراف المختلفة، والخاسر من تلك الفرقة هو الوطن لا شك في ذلك. إن همزة الوصل بين الجميع هو تلك المظلة العامة التي حددها الشرع الحنيف في تلك الآية العظيمة التي ذكرناها آنفًا. لقد حاولت بعض الاتجاهات الإسلامية بتلك النظرة العميقة والبسيطة أيضًا لفهم الإسلام أن ترأب صدع ما هو كائن بين الاتجاهات المتنافرة فاتهمت بالانتهازية السياسية والنفاق والخيانة، وتجاهل من بيده أزّمة الأمور مبادرتها وكأنها جاءت بمنكر من القول وزورًا، ثم لم يجدوا حين تأزمت الأمور إلا أن يراجعوا أنفسهم ويحاولوا على استحياء أن يرجعوا إلى ما بادر به حزب النور، ولو بطرق مختلفة، ولا يعنينا كثيرًا من يقوم بمبادرة لردم الهوة والفرقة بين الأطياف المتناحرة بقدر ما يهمنا آثارها وتطبيقها على أرض الواقع كما قال الشافعي رحمه الله "ما ناظرت أحدًا قط وأنا أبالي أن يبين الله الحق على لساني أو على لسانه" هكذا المخلصون المتجردون لله ثم لأوطانهم... فكم من أمثال هؤلاء اليوم؟!