لا شك أن نجيب محفوظ يمثل مرحلة فارقة فى تاريخ الرواية العربية التى كانت تتحسس خطواتها منذ أواخر القرن التاسع عشر, وبعيدًا عن الخلاف بين النقاد حول أول رواية عربية, هل هى لزينب فواز (غادة الزاهرة) أم سليم البستانى (الهيام فى جنان الشام) أم فارس الشدياق (الساق على الساق), وغير ذلك من الآراء النقدية غير المتفق عليها, ثم بعد ذلك رواية زينب, لمحمد حسين هيكل التى يميل أكثر النقاد إلى اعتبارها أول رواية عربية حقيقية, بعيدًا عن ذلك الخلاف, فإن نجيب محفوظ هو أول من رسخ للمسار الفنى المكتمل للرواية العربية, أو بتعبير بعض النقاد هو صاحب التأسيس الثانى للرواية العربية بعد هيكل صاحب التأسيس الأول حيث استطاع أن يوظف تقنيات السرد, والقدرة الفذة على الوصف والتحليل والوقوف أمام أدق التفاصيل, وامتلاكه لناصية الجملة العربية الرصينة فى مراحله المختلفة فى كتابة الرواية لإقامة مشروع روائى من الصعب تكراره.. كتب محفوظ الرواية التاريخية: (عبث الأقدار) (رادوبيس), و(كفاح طيبة), ثم انتقل إلى رواية الواقعية الاجتماعية (القاهرةالجديدة), (زقاق المدق), (بداية ونهاية), واختتم تلك المرحلة بالثلاثية, (قصر الشوق), (بين القصرين), (السكرية), ثم اتجه إلى عالم الرواية التأملية والفلسفية, (أولاد حارتنا), و(الطريق) , وغيرها.. ولاشك أن الجدل الذى أثارته أولاد حارتنا كان مشروعًا ليس فقط من الناحية الدينية, ولكن أيضًا من الناحية السياسية, وبخاصة أن الرواية بدأ نشرها على حلقات فى جريدة الأهرام المصرية عام 1959, وهى فترة ينبغى أن نتوقف عندها طويلاً, لأنها تمثل ذروة المد اليسارى وهو المشروع الذى كان يتبناه النظام الثورى حينئذ, إن قضية القلق الوجودى المهيمن على الرواية, ليست هى المشكلة, فالقلق الوجودى وسؤال المصير هو شأن إنسانى بامتياز, كما أنه مرحلة تقترب من الشكل الحتمى فى مرحلة ما من مراحل الإنسان, لكن العجيب أن محفوظ تناولها فى غير موعدها المعتاد, فإذا كان محفوظ قد ولد عام 1911, ورواية أولاد حارتنا بدأ نشرها فى الأهرام عام 1959, مما يعنى أنه كان فى سن 48 سنة, وهى مرحلة من الصعب أن تعبر عن قلق وجودى شخصى, لأنه من المستحيل على رجل دارس للفلسفة مثل محفوظ, وما يحمله من سمات شخصية عبقرية, من المستحيل أنه لم يمر بهذه المرحلة من قبل! لكننا نستطيع أن نجزم بأن الظروف الاجتماعية والسياسية لم تكن موائمة لهذا الطرح, وأن قيام ثورة يوليو, وتبنيها للمشروع اليسارى, وتصادمها مع المشروع الإسلامى, حفز نجيب محفوظ إما بدافع شخصى أو سياسى لكتابة أولاد حارتنا.. لكن التكفير الذى مورس ضده بسبب الرواية كان مبالغاً فيه, لأن الرواية استترت وراء الرمز, ولم تهبط إلى الإفصاح, وبالتالى فهى يمكنها أن تحمل العديد من الدلالات, تمثل تبرئة (شرعية) على الأقل, لكن محاولات المدافعين عن محفوظ بأن الرواية ليس لها علاقة بالوجود والخالق والأنبياء, كانت محاولات ساذجة, وبخاصة إذا علمنا أن كثيرًا من الأقلام الغربية, إن لم يكن كلها, قد أجمعت على أن شخصيات الرواية ما هى إلا رموز لقصة الإنسان والخطيئة والرسل.. فقد أشارت صحيفة الجارديان البريطانية, والنيويورك تايمز الأمريكية وغيرهما ذلك الأمر.. لكن كما قلنا إن الرواية أقرب للمصطلح الإنجليزى allegory , أو الحكاية الرمزية التى لا تنفى رمزيتها مقصوديتها.. فهل كانت أولاد حارتنا أوThe children of our alley , والتى ركزت عليها لجنة تحكيم قائلة : an allegory of humanity's historic destiny under the great monotheistic founders of religion أى حكاية رمزية إنسانية عن مصير الإنسان, من خلال المؤسسين العظماء لعقيدة التوحيد.. هل كانت إحدى مراحل التحولات الطبيعية لمحفوظ أم إنها ضوء أخضر من السلطة؟