لم يكن مجرد سرادق للعزاء ذلك الذى أقامه ألتراس الأهلى فى الشارع أمس الأول.. وإنما كان أقرب لليلة استثنائية، شديدة العمق والحزن وبالغة الشفافية والخصوصية.. عاشها الكثيرون على اختلاف ملامحهم وأحلامهم وأعمارهم ورؤاهم وحساباتهم.. كل شىء فى ذلك السرادق كان استثنائيا جدا.. بداية من الشارع الصغير الضيق الذى كان يستضيف لأول مرة سرادق عزاء.. وهو بالمناسبة شارع يحمل اسم الراحل العظيم صالح سليم.. أى أنه حتى فى تلك الليلة الاستثنائية لم يكن صالح سليم غائبا.. ولم يكن السرادق منسوبا لشخص بعينه أو يحمل لافتة تحوى اسم إنسان راحل ليقف أهله وأصدقاؤه فى مقدمة هذا السرادق يتلقون فيه العزاء من غرباء قادمين أو أهل وأصحاب وأحباب.. وإنما كان سرادقا أقيم بلافتة واحدة فقط تؤكد أنه سرادق شهداء الأهلى.. وكان الواقفون يتلقون عزاء الشهداء هم أبناء الأهلى.. منهم شباب ينتمى للألتراس بداية من صبيان وشباب صغار السن وحتى كل قيادات الألتراس الذين كان بعض الإعلام فى تلك الليلة يتهمهم بمحاولة حرق وزارة الداخلية واقتحامها.. وكان معهم يقف لتلقى العزاء أيضا كل لاعبى فريق النادى الأهلى.. سواء كانوا النجوم الذين يواصلون رحلة التألق والإبداع والحب مع الفانلة الحمراء أو حتى النجوم السابقين الذين كانوا فى الأهلى ثم انتقلوا منذ أيام أو سنوات إلى أندية أخرى لكنهم جاءوا فى تلك الليلة ليكونوا فى نفس ذلك السرادق إلى جوار زملائهم.. كان يتلقى العزاء أيضا فى نفس ذلك الطابور الطويل جدا شباب أصيب فى مأساة بورسعيد.. جروح فى الرأس والجسد وكسور مؤلمة فى الأيادى والأقدام ولكنهم أصروا على الحضور والوقوف رغم أى شىء احتراما للزملاء والشركاء والأصحاب الذين ماتوا هناك وداست عليهم أحذية الكراهية والعداء وتجارة العنف والدم.. أما القادمون لتقديم واجب العزاء فلم يكونوا مثل أى قادمين لأى سرادق عزاء آخر.. لم يكن بينهم من جاء للمجاملة أو من باب الواجب.. لم يكن هناك من جاء ليبحث عن كاميرات التليفزيون وأضواء الشاشات.. إنما جاء الجميع وهم شركاء فى نفس الحزن والوجع.. لم يكن من الضرورى أن تربطهم بمن ماتوا أى علاقة أو صلة أو معرفة سابقة.. وكانت الصلة الظاهرة والواضحة هى أنهم جميعا بشر حتى وإن اختلفت ملامحهم ومشاعرهم وطبيعة حياتهم.. وأنهم جميعا مصريون ينتمون لهذا الوطن المجروح والمكسور والخائف والغاضب والثائر والباحث عن حقوقه وأمانه واحترامه وكبريائه.. وعلى الرغم من أنه كان سرادقا لشهداء الأهلى فى مأساة بورسعيد.. وامتلأ بأبناء وعشاق الأهلى بداية من الأطفال والصغار وحتى رئيس وأعضاء مجلس إدارة النادى الكبير.. إلا أنه كان هناك مكان أيضا فى نفس السرادق المزدحم بالحب والحزن والدموع لمن ينتمون للزمالك والإسماعيلى والاتحاد، لأنه فى تلك الليلة سقطت الألوان كلها واختفت أى حساسيات قديمة لم تكن لها فى الماضى أى ضرورة ولن يبقى لها فى المستقبل أى مكان.. وكان كل الحاضرين فى السرادق سواء واقفين أو جالسين.. يمارسون الحزن على من مات.. والغضب بسبب تلك الوحشية والقسوة واللاإنسانية التى صاحبت مشهد الموت ولحظات الرحيل.. والأمل والرغبة فى البحث عن حقوق كل هؤلاء الذين ماتوا دون ذنب.. وإلى جانب ذلك كله.. كان هناك مشهد أبناء الألتراس وفى أعينهم ذهول وتساؤل حزين.. هل أصبحنا نعيش زمانا يموت فيه الإنسان لمجرد أنه يحب كرة القدم أو تكون جريمته وخطيئته أنه ينتمى لأحد أندية كرة القدم أما نجوم الأهلى ولاعبوه فكانوا الأكثر حزنا ووجعا.. أحسست بكل واحد منهم حائرا وتائها وغاضبا وهو يرى بنفسه شبانا كبارا وأطفالا صغارا يموتون لأنهم أحبوا هؤلاء اللاعبين والنجوم.. فالذين ماتوا أو لم يموتوا كانوا هم الجمهور الذى من أجله يلعب هؤلاء النجوم.. وجاءت اللحظة التى يموت فيها العشاق ويصبح النجوم أنفسهم هم شهداء لحظة الموت والغياب. [email protected]