أظن أن معظم مشاكلنا ليست سياسية، بمعنى غياب الديمقراطية وتداول السلطة والشفافية والذى منه، الأمر عندى هو غياب المهنية، وهى بحق الفريضة الغائبة، فإذا كنا نعجز عن تغيير الواقع السياسى المتردى كأفراد أو حتى جماعات، فإن ما نستطيعه هو تغيير أنفسنا والتسلح بالكفاءة المهنية، فإن حدث ذلك سنحل كثيرًا من المشاكل التى نعتقد أنها عصية على الحل، وهذه ليست محاولة للهروب قفزًا، بقدر ما هى بديل أظن أن الجميع قادر عليه، فقد أصبح كل شىء حولنا من إنتاج الهواة من السياسة إلى السباكة، حتى القتل والجرائم أصبحت من أفعال الهواة، ببساطة لم يعد لدينا محترفون فى أى قطاع، فقد نجحت مثلاً قناة الجزيرة ليس بأموال قطر ولا بديمقراطية نظامها ولكن بمهنية القائمين عليها، وفى 67 انهزمنا لأن المشير عامر توقف نموه عند رتبة الرائد، بينما انتصرنا فى 73 لأن كل القادة كانوا مؤهلين، وكان معظم من عبروا من خريجى المدارس الصناعية والجامعات، وما أخطاء الأطباء الصارخة إلا نتيجة مباشرة لتخريج الآلاف منهم كأعداد بدون تدريب أو تأهيل علميًا وكم من آلاف المرضى دفعوا حياتهم ثمنًا لجهل وتكاسل الأطباء، وكأن هؤلاء الأطباء يحملون رخصًا للموت وليس العلاج، وفى كل مبنى ينهار تنهار على التوازى كلية الهندسة التى أجازت للاستشارى والتنفيذى ومهندس الموقع.. وأى دراسة مبدئية لكل كبارى القاهرة وشوارع مصر المحروسة ستكشف أنها تفتقر للحد الأدنى من العلم الهندسى، وربما لا يلتفت البعض إلى أن انتشار التعذيب فى أقسام الشرطة هو انعكاس لتدنى التدريب على البحث والتحرى، وقد زاد طول الفترة المطبقة لقانون الطوارئ إلى التكاسل المهنى الفج، أما الفبركة وترويج الشائعات والدجل والخرافة والسب والقذف سواء فى حق الغير أو حتى فى حق زملاء المهنة فتعود بالأساس للتراجع المهنى ونقص الكفاءة وغياب المدارس الصحفية ومعها غاب الكبار والحكماء الذين كانوا يضبطون إيقاع النشر الصحفى بما يتناسب مع المصالح العامة وليس المصالح الشخصية الصغيرة، وتمتد ادوار الهواة فى حياتنا بالتشريعات المشوهة لانهيار صناعة التشريع وفق أكذوبة ال 50٪ عمال وفلاحين، فما يكاد يصدر تشريع حتى يعاد لترقيعه مرة أخرى أو الحكم بعدم دستوريته، وما انتشار الدروس الخصوصية وازدهار مؤسسة شارع الفجالة إلا شهادات رسمية لتدنى مستوى مدرس الفصل وصناعة الكتاب المدرسى، ثم ماذا تعنى تلك الميزانيات التى تنشر سنويًا فى الجرائد وشركات قطاع الأعمال وهى محققة أرباحًا بالملايين، وهى فى حقيقة الأمر ترتع فى الفساد والفشل والخسارة.. والمعنى أن هناك محاسبين باعوا ضمائرهم ومهنتهم مقابل جزء من الأرباح المزعومة، وفى ظل كل هذا يتساءل المرء عن جدوى 24 نقابة مهنية فى مصر، نسيت مواثيق الشرف المهنى والتدريب فأضاعت الممكن بحثًا عن المستحيل فى لعب أدوار سياسية على حساب وظيفتها المهنية، علمًا بأن قوانين تلك النقابات تمنع أى عضو من الانتقال لجدول تحت التمرين إلى جدول المشتغلين إلا بعد التأكد من مزاولة المهنة بجد، والمثير أن أى نظرة لأسماء القائمين على تلك النقابات لن تعكس اسم مهنى رفيع المستوى، فقد أدخلت الانتخابات عناصر كل ولائها إما لجماعة أو حزب أو شلة أكثر من كفاءتها المهنية، ذلك عن الجماعة المهنية، أما الحديث عن الحرفيين فيكفى القول باختفاء الأسطى والصنايعى، واعتبار البعض منا أن عمل الحرفى سُبة أكثر منه وظيفة، خلاصة القول أن الهواة لا يصنعون تقدمًا أو تنمية أو حضارات، وتلك الأعداد الكبيرة من الخريجين الهواة كغثاء السيل، والحل عندى فى التشدد بما يسمى «الرخصة المهنية» بشرط ألا يكون الحصول عليها مثل بقية الرخص التى أنتجت أمة من الهواة!