ظلّتِ الإعلاميةُ «منى الشاذلى» تُبَصِّرُ مواطنًا بحقّه لدى حكومته، وتقنعه بالمطالبة بها. لكن المواطنَ المسكين يأبى إلا أن يُفرِّطَ فى حقّه، متواطئًا مع وزارة الداخلية على نفسه؛ مؤيّدَها على ظلمه وقهره واستلابه، راضيًا بأقلّ كثيرًا من القليل مما يجب أن تكفله لنا حكومتنا من حقوقنا كآدميين! الحكايةُ، كما وردت فى برنامج «العاشرة مساءً»، أن مواطنًا قد اعتقِل 67 يومًا (ياللرقم المشؤوم سيئ السمعة!)، لارتكابه تهمةً عام 1972. كان وقتئذ صبيًّا مراهقًا، يعمل حدّادًا مسلحًا، بينما التهمةُ ارتكبها سائق! المواطن لم يعمل سائقًا أبدًا، ولا استخرجَ رخصةَ قيادة فى حياته. مكث وراء القضبان حائرًا لا يدرى بأى ذنب حُبِس! بعدما انتزعه رجالُ الشرطة من مسكنه على مرأى من أولاده وأحفاده وجيرانه. وكانت، طبعًا، الزوجةُ الجميلة العونَ لزوجها ويمامةَ الحرية. أدّت واجبًا تكاسلت عن أدائه أجهزةُ المباحث والتحرّى. حدست المرأةُ بذكائها أن بالأمر لبسًا ما، أو تشابهًا فى الأسماء، فسافرت إلى المنصورة متتبّعةً خيوطَ المسألةِ المشتبكةَ، حتى وصلت، بحبّها وإيمانها، إلى الحقيقة التى غابت عن أجهزة الدولة. ثمة سائقٌ كان يعيشُ ها هناك قبل عقودٍ ثلاثة، ارتكبَ جرمَه ثم غادر العالم. وحينما انتبهت أجهزةُ الأمن إلى الواقعة، بعد ثلث قرن (!)، بحثت فلم تجد إلا مواطنًا قاهريًّا يعمل بالحدادة، ويحمل الاسمَ ذاته، فاعتقلته، هكذا ببساطة! وبعدما قدّمتِ الزوجةُ الأوراقَ التى تثبتُ اختلاطَ الأمر على المباحث، لم يعتذروا لها، حاشاهم أن يعتذروا! وتحددت جلسةٌ للحكم فى نهاية العام، يظلّ، حتى انعقادها، البرىءُ متهمًا، حاملاً أرزاءَ وزرٍ لم يأته! واقعةٌ كتلك، إن فُرضَ جدلاً، وعبثًا، أن تحدث فى دولة متقدمة من تلك التى ترعى حقوقَ الإنسان، يظهر فى التليفزيون فورًا وزيرُ الداخلية، أو رئيسُ الدولة حتى، ليقدّمَ اعتذارًا رسميًّا للأسرة المظلومة، ولكافة أبناء الوطن، لأن خللا أمنيًّا جسيمًا ومخجلاً قد وقع، فأوقع ببرىء وراء ظُلمة القضبان. أمرٌ كهذا حريٌّ إزاءه أن تُقالَ وزارةٌ! أمرٌ كهذا يحملُ فى طيّاته ثقافةَ حكومة بأسرها. ثقافةٌ يقول لسانُ حالها: «إن المواطنَ المصرىَّ رخيصٌ، ورخيصٌ جدًّا». بينما تقول الحكمةُ القانونية البليغة: «إن فرارَ ألف مجرم، خيرٌ من أن يبيتَ برىءٌ ليلةً واحدة فى السجن». وتساءلتِ الزوجةُ ببراءة: «ماذا لو أن التهمةَ جنايةُ قتل مثلا؟ أكانوا سيشنقون زوجى، ثم يكتشفون فيما بعد أن خلطًا فى الأسماء قد وقع؟!». على أن هذا الوعى المرتفع لدى الزوجة، تراجعَ وتنحّى حينما جاهدتِ المذيعةُ المثقفة أن تحثَّها على المطالبة بحقِّها. فعلى مدى دقائقَ، خاطفةٍ فى قياس الزمن، طويلةٍ كأنها الأبد فى قياس الإنسانية، سألتها منى الشاذلى: «هل تفكرين فى المطالبة بتعويض؟» وأذهلنى أنْ أطرقتِ السيدةُ برأسها هامسةً: «لا نريدُ شيئًا، الحمد لله على قد كده»! فأعادتِ المذيعةُ الواعية السؤالَ الحاثَّ على الزوج المهدور حقّه: «من حقّك أن تطالب بتعويض!» فأجابها بمثل ما أجابت زوجته: «العوض على الله!» فاتصلتِ الشاذلى هاتفيًا بمحامى الأسرة وسألته السؤالَ ذاته، فقال، بنبرة الانكسار والانهزام والعدمية ذاتها التى تتلبّسنا جميعًا حينما تكون حكومتُنا هى خصيمنَا: «مازال الأمرُ مبكرًا (للتفكير) فى تعويض، مازلنا نطمح فى البراءة فى جلسة ديسمبر!» وصدمتنى كلماتُ المحامى، الدارس حقوق الناس، والمطالَب بالمطالبة بها! هل الأمرُ رهنُ «التفكير»؟ هل باتَ كلُّ ما نرجوه من حكومتنا هو ألا نُعتقل ظُلمًا، فإن اِعتُقِلنا ظلمًا، لا نطمحُ فى غير الخروج للنور أحياءً بعد شهور طوالٍ عشناها فى ظُلمة الحبس الزور وبرودته؟ وماذا عن كرامتنا التى أَهدرها سجّانونا؟ وماذا عن تشويه سمعتنا؟ وماذا عن صفحتنا البيضاء التى لُوِّثَت؟ وماذا عن الرعب الذى نهشنا فى انتظار الحكم؟ وماذا عن جهد الزوجة وأسفارها تلك التى صحّحت أخطاء المباحث الكسول؟ وماذا عن فرضية أن يتكررَ الأمرُ نفسُه مع أى مواطن من الثمانين مليونًا، إلا من رحم ربى من ذوى الحصانة؟ والأهم من كل هذا، كيف لنا أن نلومَ حكومتَنا على ظلمنا وقهرنا إن كنّا نحنُ، بيدنا لا بيد عمرو، نتواطأ معها بكل محبّة على ظلمنا وقمعنا؟ [email protected]