تعرض فى افتتاح ملتقى الأفلام التسجيلية تحفة فنان السينما الأمريكى جودفرى ريجيو «تحولات الحياة»، 1988، إنه من حيث التصنيف الأكاديمى فيلم تسجيلى، ولكنه ينتمى إلى السينما الخالصة، وليس ذلك لأنه فيلم من دون تعليقات بالكلمات ومن دون حوارات، فمن الخطأ الشائع القول بأن السينما هى لغة الصورة، والصحيح أن لغة السينما هى لغة الصوت والصورة والمونتاج، وأن الصوت يشمل الكلمات والمؤثرات والموسيقى. هنا ما تنفرد به لغة السينما عن غيرها من لغات التعبير الفنى، وهو القدرة على الانتقال بالمونتاج من لقطة فى قارة إلى لقطة فى قارة أخرى. هنا اللقطات تصبح مفردات اللغة فى ذاتها، وهنا تؤلف الموسيقى التى أبدعها فيليب جلاس من واقع قراءة اللقطات على الشاشة، وتلتحم عضوياً مع هذه اللقطات، فهى ليست مكملة، أو مجرد مؤثر على شريط الصوت، إنه أوبرا كاملة، ولكن بلغة السينما. مثل قصيدة من الشعر لا يكفى أن تقرأها مرة واحدة لتكون القراءة بالمعنى الأصلى لهذه الكلمة، وهى الفهم والاستيعاب، لا يكفى مشاهدة هذا الفيلم مرة واحدة لقراءته على النحو الصحيح. لقد شاهدته مرات عديدة، وفى كل مشاهدة كنت أراه من جديد. من حيث المضمون «الرسمى» الذى تجده فى ملخصات الأفلام هو فيلم عن تأثير الثورة التكنولوجية على ثقافات شعوب العالم المختلفة، ولكنه أيضاً عن المعذبين فى الأرض، وعن تناقضات العالم المعاصر، وتعبير فذ عن تجليات الوجود الإنسانى على ظهر الأرض. كما يمكن اعتباره عملاً صوفياً. ونهاية الفيلم تحمل مفاجأة مذهلة، وهى ترديد أذان الصلاة الإسلامية ثلاث مرات متوالية، وهى الكلمات الوحيدة التى نسمعها طوال الفيلم (99 دقيقة). والمفاجأة أن مخرجه ومؤلفه مسيحى، بل وقضى صباه وشبابه فى جماعة كاثوليكية تسمى «الإخوان المسيحيين» يصلى ويتعبد ويتأمل فى الوقت الذى ترتبط فيه فترة المراهقة والشباب المبكر عادة باللهو والاندفاع فى اللهو. ومن المعروف أن أذان الصلاة الإسلامية يتضمن الشهادتين (لا إله إلا الله- محمد رسول الله)، وأن النطق بهما يعنى دخول الإسلام. ومن ناحية أخرى فإن ختام الفيلم بأذان الصلاة يعنى درامياً الخلاصة، أو الحل. فهل يشهر الفنان إسلامه بهذه الخاتمة، ويقول إن «الإسلام» هو الحل، وألا يتأكد ذلك من تكرار الأذان ثلاث مرات متوالية، ومن مدة الفيلم (99 دقيقة)، وهى عدد أسماء الله الحسنى فى القرآن الكريم. وأليس هناك ارتباط بين هذه الخاتمة، وبين طرد ريجيو من جماعة «الإخوان المسيحيين» عام 1968 بسبب «العصيان الفكرى». الله سبحانه وتعالى وحده يعلم ما فى السرائر. وعلى كل متفرج يشاهد الفيلم أن يراه كما يشاء، مثل العمل الموسيقى المفتوح على كل المعانى، حيث يتم تلقيها بالوجدان، وليس للوجدان حدود أو محددات. [email protected]