عادة درج عليها الكنديون المنحدرون من أصول هندية، فإذا رأى أحدهم شخصاً في منامه يهبه عطية أو يمنحه هدية، ذهب إليه وقص عليه ما رأى وطالبه بالوفاء بالحلم. ومن ذلك ما ورد عن أحد الوجهاء الهنود الذي توجه ذات يوم إلى منزل السيد وليم جونستون حاكم الولاية وطلب مقابلته، وبعد فترة من الانتظار، دخل الحاكم في زيه العسكري الأنيق ليجد الرجل في انتظاره. وبعد جملة من العبارات الودية والتقليب في صفحات المواقف التي جمعت بين الرجلين، أفصح صاحبنا عن حلمه، وقال: "ليلة أمس، رأيت فيما يرى النائم أنك خلعت بذتك العسكرية هذه وأهديتها إلي." فقام الحاكم من فوره إلى الغرفة المجاورة وخرج بعد قليل وفي يده كيس أنيق به حلة عسكرية تحمل رائحة عرقه. وحين أراد الزائر أن ينصرف وتقدم خطوتين نحو الباب، ناداه السيد جونستون، فكَرَّ راجعا. تلعثم الحاكم قليلا قبل أن يقول لصاحبه في صوت خفيض: "نسيت أن أخبرك أنني رأيتك في منامي ليلة أمس، وأنك وهبتني قطعة أرض مساحتها أربعة هكتارات من أرضك المجاورة لقصري." عندها قال صاحبنا حانقا: "هي لك يا سيدي على أن تعدني أن نتوقف عن الحلم من الآن فصاعدا." لكننا وبعد أن تمردنا على كوابيسنا وخرجنا إلى فضاء الأحلام الواسع، وطاردنا فراشات الأمل فوق مساحات الحرية، لن نستطيع أن نلملم آمالنا في أكياس سوداء من أمام الحديقة الخلفية لحاكم البلاد، لن نستطيع وإن حاولنا أن نلجم فحولة تطلعاتنا وجموحها نحو عالم أفضل وحياة نستحقها، بعد أن عاقرنا اليأس عقودا من الغياب. لم يكن بوسعنا أن نحلم لأن مكنسة الواقع كانت تضيق بزغب الأحلام وتكنسه دون شفقة ليستقر به المقام في حاوية قذرة من حاويات مهملة تكتظ بها شوارعنا الغائبة عن الوعي. كنا نفرح بالوعود ولا نراقبها كما يفرح الأطفال بأحذية عيد ماطر، كنا نشعر بأن أحلامنا عبء على المسئولين فنرضى منهم بأي وعد، ونقبل منهم أي عطاء، ونُقَبِّل الأرض تحت أقدامهم والنجوم فوق أكتافهم وندلل كلابهم ونمتدح خطاياهم لأن الأرض كانت موزعة في أذهاننا الطفولية بين أحرار وعبيد، ولأن الأرزاق كانت مقسمة في مفاهيمنا المشوشة بين سادة وخدم. لكننا حين غزلنا النهار وأطلقنا أشعة الحرية من صدورنا المكبوتة الخرساء، اكتشفنا أن الأحلام لم تكن حقا دستوريا مقصورا على السادة المسئولين، وأن تحقيق رغبات الشعوب لم يكن مجرد عادة هندية قبلية، بل هو حق يفرضه أحرارنا المدعون بالحق المدني على مستأجري التاريخ الذين احتلوا أرائكنا والتهموا طعامنا وأحلامنا وقسموا أراضينا ومتاعنا وماشيتنا بين الحاشية والأتباع والراقصين في بلاطهم الملكي. لم تكن ثورتنا ثورة جياع، بل ثورة حالمين قادمين من أقصى المنافي السيبيرية بعد أن اكتشفوا أقدامهم فجأة وتعرفوا على ملامحهم ذات إفاقة. قدر الحاكم القادم إذن أن يدفع أقساط الحلم المتأخرة التي استوفت عدتها منذ زمن، على مهدي البلاد المنتظر أن يستعد من الآن بأكياس بلاستيكية تضم أحلام الشعوب الطامحة للحرية والتي أتت لتوها من منافى التاريخ لتطالب بإرثها في ملكوت الحياة. على المغامر الذي استطاع أن يتسلق كرسي الفرعون بأقدام من ورق أن يستعد لدفع فاتورة بلاد غرقت في طوفان الديون حتى حقويها في مواجهة دَيَّانة التاريخ الذين لا يصبرون على صاحب رأي أو صاحب رؤية. وعلى رئيس البلاد القادم من أقاصي بقاع الأمل أن لا يطالب حرافيش البلاد بدفع ثمن الأحلام لأن لصوص التاريخ لم يتركوا لهم ضياعا ولا أملاكا، بل تركوهم حفاة عراة على قارعة التاريخ يتسولون الأيام والأحلام المنقوعة في زيت القهر والعبودية، بعد أن سرقوا ضروع مواشيهم في أسواق المحسوبية والرشوة. وعلينا اليوم أن نحلم مُدَّ أبصارنا، وأن نتقلب في فدادين الأحلام كيفما نشاء بعد أن استرددنا بلادنا المحتلة من أيادي قطاع طرق الأحلام. بمقدورنا اليوم أن نطارد فراشات الحلم في كل الحقول وأن نمد أيادينا لنمسك بأجنحتها الوردية وقتما نشاء وأن ندق أي باب نريد دون أن ننظر إلى اللافتات أو البوابين، لأن أبواب المسئولين لا يمكن أن تغلق بعد اليوم في وجه أحلامنا المستحقة. أديب مصري مقيم بالإمارات [email protected]