وسط مجموعة قليلة باقية من الفرق المستقلة الجادة، والعاملة علي تحقيق ذاتها علي أرض الوطن، تبرز فرقة (ورشة المسحراتي) لمؤسستها وصاحبتها ومخرجتها الناشطة "عبير علي"، والتي لا تألوا جهدا في تنشيط الحياة المسرحية، سواء من خلال الفرق المستقلة وعروض الشارع، أو الفرق الإقليمية، فهي شخصية فاعلة، ومثقفة تري المسرح أحد طرقها لبث الوعي بين الجماهير، فحملت علي كتفيها عبء مشاكسة الواقع علي امتداد أكثر من عقدين من الزمان، بفرقتها التي يحمل عنوانها دلالات التنبيه والإيقاظ في ظلمة الغفلة . عبارات دارجة ورغم أنها في عرضها الجديد، تعتمد علي نص كتبه السويسري الموطن واللغة، الإيطالي الأصل والوالدين "اوليفييه تشياتشياري" (ولد في جنيف 1969)، والعرض منتج بدعم من المؤسسة الثقافية السويسرية (بروهلفستيا)، والتي يهمها بالطبع تعريف الجمهور المصري بكاتب سويسري، مما يتطلب عدم التدخل في بنية عمله الدرامية، حفاظا علي رؤيته للعالم، فضلا عن أن مترجمة هذا النص هي الناقدة المتميزة "منحة البطراوي"، غير أن "عبير علي" لم تتخل تماما عن منهجها في التدخل في بناء النص المقدم، وأن انحصر تدخلها هذه المرة، في تطعيم الحوار الفصيح بكلمات عامية، وشحنه بعبارات دارجة تتعلق بالديمقراطية أو تتحدث عن "البيت والوطن ايد واحدة"، وتحويل الفرنك إلي جنيه، فضلا عن نقل حديث راوي وقائع المسرحية، والبادي داخل النص المكتوب، وكأنه لسان حال الكاتب يروي الأحداث من خارج نطاق وقوعها، نقله إلي شخصية حية بفضاء المسرح، منحتها المخرجة اسم "طريدة المدينة" لتجعلها بروايتها وموضعها المستقل عن مستطيل الوقائع الدرامية، والقريب من الجمهور، حق الحديث بنبرة متهكمة علي هذه الوقائع المثيرة، أما ما بدا دخيلا علي نسيج العمل منذ البداية، هو إصرارها علي ربط النص السويسري بأسلوب فرقتها الشعبية المصرية، وذلك بتقديم مدخل ساخر لمجموعة الممثلين، وهي تدور حول أريكة الوسط مغنية ومؤدية بأداءات مختلفة مطلع أغنية الأطفال "ما فتش عليكم الديب السحلاوي، والدبة وقعت في البير"، ونصب ساري علم مجهول تقدم له الفرقة تحيتها دونما علاقة وثيقة بمحتوي النص وتفسير علاماته، بقدر ما هو مفروض علي النص من خارجه، ومنح الدخلاء صفة عسكرية . مأساة البطل الضد تطرح مسرحية (إثبات العكس) علي المتلقي فرضية اقتحام قوة ما لمسكن إنسان بسيط، لتجبره علي الاختيار بين خيانة أعز أصدقائه أو عدم خيانته، وتجري هذه الفرضية في بلدة مفترضة، في عالم متحضر وديمقراطي الحكم، غير أن المسرحية ليست هي هذه الفكرة العامة، بل هي البناء الدرامي بحدثه وزمنه ومكانه وشخصياته وحضورها وعلاقاتها ببقية مقومات البناء الدرامي، وهي العرض المسرحي بعناصره المختلفة، والمحددة هنا داخل مسرح (روابط) فقير الإمكانيات، مما حدا بالمخرجة إلي تحديد فضاء المسرح بحجرة صغيرة لا تشي بكونها بهوا بفيلا، بل مجرد فضاء صيغ ديكورا بواسطة "هناء سعد" لتتمركز وسطه أريكة طويلة تستخدم لجلوس الشخصيات، وخلفية من شرائح البلاستيك الشفاف مرسوم عليها بخطوط كاريكاتورية ل "محمد عزت" مجموعة من الشخصيات الممسوخة، وعلي يسار المشاهد وبالقرب منه بؤرة خاصة تتواجد داخلها الراوية الجالسة علي كرسي ببيتها وأمامها منضدة تحرك عليها مجموعة من التماثيل الطينية الصغيرة، وهي تقدم مشاهد المسرحية ووقائعها الغريبة . تنطلق هذه الوقائع المختلفة من لحظة زمنية واحدة، الثامنة من مساء أحد الأيام، بحيث يبدو الأمر في البداية وكأن كل واقعة بكل مشهد، لا تقدم إضافة بالتراكم إلي ما قبلها، بل تتوازي الوقائع، وتتزامن في حدوثها بنفس الشخصيات في أمكنة مختلفة، مع ثبات الشخصية المحورية في المسرحية، والتي لا تعدو أن تكون مجرد مواطن بسيط، هادئ الطبع والحياة، أقرب لطبيعة البطل الضد أو (اللابطل) المثير للشفقة علي أفعاله، أكثر من التفاخر ببطولته، والتماهي في شخصيته المتفردة، ولذا فهو لا يحمل اسما في هذه المسرحية، ويقترح الكاتب / الراوية تسميته ب (الموضوع)، رغم كونه مجرد مواطن يفاجأ ذات يوم بمطاردة العالم له، وكأنه تنويعة علي شخصية "جوزيف ك"، الذي تهاجمه مجموعة من الشرطة علي حين غرة، لتقوده إلي المحكمة بتهم لا يعرف عنها شيئا، في رواية التشيكي "فرانتس كافكا" الشهيرة (المحاكمة)، وأن تميز مواطن مسرحيتنا البسيط عن البطل "كافكا" بأنه يعيش في نفس الوقت بثلاثة أماكن داخل نفس البلدة، فهو يقيم بفيلا بمدخل البلدة، وأخري بمخرجها، وثالثة بوسطها، وتقتحمه في نفس اللحظة الأولي من الساعة الثامنة مجموعات من الدخلاء والجيران في الأماكن الثلاثة، لتجبره في كل هجمة علي الاختيار بين موقفين لا ثالث لهما، فتتباين اختياراته وفقا للمعلومات التي تنقل إليه مع كل هجمة، والمأزق الذي يجد نفسه متورطا فيه. من هنا تفقد الشخصية فرديتها، وتتحول إلي موضوع عام، أو نمط كلي، وتصير (كل إنسان) أو كل مواطن بسيط يكدح صباحا ويعود في نهاية يومه لبيته طالبا الراحة، ورافضا التدخل في شئون الغير، وحتي أعز أصدقائه لم ينتفض للوقوف إلي جانبه في أزمته، وأن تمسك بصداقته له ، ومع ذلك، وذات مساء يقتحم بيته الكائن بصورة شبه منفصلة بمدخل البلدة أربعة دخلاء ملثمون ومسلحون يحاصرون البيت وساكنه، ويبحثون عن صديقه الحميم "تييو"، ويهددونه بالموت أو إخبارهم عن مكانه، فيختار الانتظار معهم لحين عودته لمنزله، بعد شرائه لمشروبات ذهب للمدينة من أجلها 0 اقتحامات متوالية في نفس الساعة، يقتحم أربعة من الجيران بيت مواطننا الكائن أيضا بصورة شبه منفصلة في مخرج البلدة، هم أيضا "ملثمون ومسلحون"، ويخبرونه باقتحام دخلاء علي مواطن البيت الأول بالبلدة، ويسألونه عن "تييو"، فيخبرهم بأنه ذهب للمدينة، فيتهمونه بأنه قد يكون متعاونا مع الدخلاء، ويطرحون عليه الاختيار بين أن يكون معهم للمقاومة أو مع الدخلاء، فيقرر أن يحمل سلاحا ويكون مقاوما معهم. وما بين مدخل المدينة ومخرجها ومقاوميها، تدور بفيلا مشابهة بوسط المدينة، ومع ذات المواطن "الموضوع" بقية وقائع العرض الأساسية، وانطلاقا من ذات الساعة، حيث يقتحمه في البدء اثنان من الجيران، يبحثان عن المدعو "تييو"، ويريانه إنسانا طيبا وخدوما، غير أنه ارتكب فيما يقال جرم اغتصاب فتاة قاصر، هي ابنة صيدلي البلدة، وعلي المواطن أن يتخذ قراره بأن يكون متواطئا مع الجاني أو مع العدالة، فيقرر تسليم صديقه فور عودته لبيته للباحثين عنه، ثم تدخل عليه جارتان هما زوجتا الجارين الأولين، لتقدما له معلومات غائبة عنه، حول تهمة الاغتصاب، بأن هذا الأخير هو الذي اختلق هذه التهمة، حتي لا يتحرش "تييو" بابنته، خاصة وأن الصيدلي أراد شراء بيت "تييو" بعد موت أبيه العجوز، فلفق له هذه التهمة، ولهذا أعلنت الجارة الأولي أنها تقدمت للسلطات وبرأت "تييو" بوصفها شاهد عيان، رأت ابنة الصيدلي وهي تتحرش ب "تييو" مع رفضه لها، فيقرر مواطننا إخبار"تييو" بأمر المؤامرة المحاكة حوله، والانضمام إلي مجموعة المقاومة. لكن الأمر لا يتوقف عند هذا الحد، بل يدخل عليه في مرة أخري جار وزوجته، يتهمان الآخرين بتأجير القتلة، ويعلن الجار الأول أنه وزوجته التي برأت "تييو" كانا خارج المدينة وقتها، ولهذا يقرر "الموضوع" أن يختار تسليم المشتبه فيه للشرطة، كي يتيح له فرصة أخيرة لتبرير سلوكه، علي حين يختلف الموقف عندما يدخل عليه الجار الثاني وزوجته والتي تخبره ببراءة صديقه، لاعتراف ابنة الصيدلي لها بعدم اعتداء "تييو" عليها، وأنها فقدت عذريتها بيد غيره، ويجب عمل شيء من أجل صديقه حتي لا يستولي الجيران علي بيته الذي قيل إنه أوصي به إليهم حال موته، ويقرر "الموضوع" أن يتمسك بتضامنه معهم، علي حين يتغير اختياره عندما تدخل عليه الجارة الأولي وتخبره بأنها أقامت علاقة مع "تييو"، وعليه أن يخبرها بمكانه، كي تهرب معه، فيختار عدم مساعدتها بإخبارها بمكان وجوده، ثم يدخل الجار الأول، يتهم الجارة الثانية بقتل والد "تييو" منذ زمن طويل بحقنة مميتة، خوفا من أن يوصي بالبيت ل "تييو"، وليس لها، وهي التي رعته وقتذاك للحصول علي البيت، وحينما واجهها بمشاهدته لها وهي تقتل الرجل، اشترت سكوته بخمسمائة فرنك شهريا تؤرقه وتدفعه للإبلاغ عن الجريمة، ويضع "الموضوع" في موقف اختيار حاد، بين توريطه بالتستر عليه، أو الاتفاق علي القول كذبا بأنه كان يسهر معه في بيته ليلة وقوع الجريمة، وبالتالي لم ير الجارة وهي تقتل العجوز، فيوافق الموضوع علي الاختيار الثاني . تعاقب وتزامن وتتوالي المفاجآت بتوالي تدفق المشاهد التي ندرك أنها لا تحدث بالتزامن المثبت لما يحدث داخل لحظة زمنية محددة، بل يتم بالتعاقب الذي يكشف عن حركة التطور في الحدث الدرامي وشخصياته، فتدخل الجارة الثانية التي يشي حديثها بأنها أقامت علاقة جنسية عابرة من قبل مع "الموضوع" نفسه، تعترف بقتلها لوالد "تييو" بناء علي طلبه ورحمة به، وتخبره بأنها عرفت أن جارتها الأولي علي علاقة ب "تييو"، لذا ذهبت إليها وابتزتها وحصلت منها علي خمسمائة فرنك شهريا، هو نفس المبلغ الذي تعطيه لزوجها كي لا يبلغ عنها، علي حين يدخل الجار الثاني ليخبره أن جارته الأولي تبتزه لمعرفته بعلاقته المشينة بابنة الصيدلي، ومشاهدتها لهما في أوضاع مخلة أكثر من مرة، وتحصل منه علي خمسمائة فرنك شهريا، يحصل عليها بدوره بالاستدانة دون رد من "تييو"، وهي تعطيها للجارة الثانية (زوجته) حتي لا تشي بعلاقتها العاطفية ب "تييو"، فتعطيها هي بدورها إلي الجار الأول (زوج العاشقة) حتي لا يشي بقتلها للعجوز والد "تييو"، ويخبره بأنه يشك بأنه مريض مرضا جنسيا، انتقل إليه من معاشرته لابنة الصيدلي، ونقله هو لزوجته، التي أقامت علاقة عابرة مع "الموضوع"، ويري أن الصيدلي هو الذي استأجر الدخلاء لمطاردة "تييو" ظنا منه أنه ناقل المرض لابنته، فيطرده "الموضوع" بعد أن يجد نفسه متورطا في هذا الكم من الخطايا الكبري، ومصابا بمرض جاءه في لحظة ضعف عابرة، كما يرفض استقبال "تييو" عندما يحضر ملتجئا إليه، ويتركه نهبا للدخلاء ورصاص مسدساتهم، لتشوش رؤيته لصديقه، وعدم قدرته علي حسم موقفه في الحياة . عرض ممتع ومتميز أجادت مخرجته "عبير علي" جدل عناصره ببساطة وعمق وخفة ظل، ونجح فريق العمل معها، في تحقيق رؤيتها الكلية، وبخاصة فريق التمثيل متعدد تجسيد شخصيات العمل : مصطفي حزين ومحمد معز ودعاء شوقي ومحمد علي وأروي رفعت والطبيبة عاشقة المسرح سهام عبد السلام، وخرجنا منه لنفكر فيما آل إليه حالنا، متسائلين هل نحن فعلا أبرياء ؟ أم متواطئون فيما يحدث حولنا ولنا ؟، وكيف نثبت عكس ما نقوله ونفعله ؟