ولا شك أن أعمال الفنان ادجارديجا (1834-1917) تسمو بالجسد الإنساني في رقة وأناقة.. خاصة في لوحاته التي تجسد فراشات الباليه ومن بينها لوحته الشهيرة «النجمة» التي تتألق فيها راقصة الباليه سابحة في النور.. غارقة في الأبيض البهي المتمثل في الرداء.. تطل بقدمها اليمني في مقدمة اللوحة ويكاد جسدها يطير من فرط الرشاقة.. مع تلك الزهور التي تتوقد في الرأس وعلي الثوب الأبيض. ولديجا لوحة «بنات اسبرطة يتحدين الأولاد».. تصور خمسة أولاد عرايا في الطبيعة المفتوحة في مواجهة أربع فتيات.. وبين الإيماءات والحركات وقوة التعبير.. نطل علي تلك المواجهة التي يكسب فيها الفتيات.. بتلك الأنوثة والجاذبية والجمال. وللفنان جوجان (1840-1903) لوحة شهيرة تأثر فيها بإيقاع الفن الفرعوني.. لوحة «لن نذهب إلي السوق اليوم» تصور خمس فتيات من تاهيتي علي مقعد طويل وسط الأشجار وفي حضن الطبيعة، في إيماءات ووجوه معظمها جانبية، يضئ فيها الجسد وتتحرك الأذرع في إشارة واحدة بتلك الملابس التي تذكرنا برداء الفراعنة. وهناك عاريات موديلياني (1884-1920) صورهن بملامح من السمو والشاعرية، ما بين جالسة وواقفة ومسترخية ونائمة، والجسد هنا يفيض بانسياب الخطوط والمعاني، يختلف عن أجساد رينوار المسكونة بالخصوبة والحيوية. وقد باح الجسد بالتعبير في أعمال عديدة لبيكاسو (1881-1973) مثل لوحة «الموسيقار العجوز» التي تنتمي لمرحلته الزرقاء.. يطل فيها الموسيقار الأعمي قابضا علي الجيتار بجسده وأطرافه النحيلة وكأن الجسد هنا هو الذي يعزف لحن الحزن والشقاء!. وله لوحة بديعة بعنوان «التزين» صور فيها عارية خارجة من الحمام وأمامها وصفيتها برداء أزرق تحمل لها المرآة.. وهي تتزين وأناملها تقبض علي خصلات شعرها من أعلي. صعود وهبوط في قصر الفنون بأرض الأوبرا جاء معرض «الجسد الإنساني» بمشاركة عشرات الفنانين «ليس لدينا إحصاء فلا كتالوج ولا أوراق».. وهو معرض بالغ الأهمية يستحق عليه قطاع الفنون التشكيلية التحية، ذلك لأنه يمثل درسا مفيدا وحيويا لأبنائها من طلبة الكليات الفنية، والمحرومين حاليا من الموديل الحي. وقد تنوعت فيه اللمسة وقيم الأداء، وامتد من التصوير والرسم إلي النحت، ومن الواقعية والتعبيرية إلي التلخيص الشديد وحتي التجريد، وهناك أعمال تنتمي لفنون ما بعد الحداثة استخدم فيها الوسائط المتعددة. وفي هذا المعرض ارتفعت أعمال في مستواها، وهبطت أخري، وجاءت أعمال في سياق الموضوع ورابعة خرجت علي موضوع الجسد، وقد تنوعت أعمال الفنانات وتميزت أكثر باتساع المساحة والصرحية، كما عكست المعني الحقيقي للفن المفاهيمي الذي يعتمد علي أفكار، وهي تعد تشخصيا لمعني «الفيمنيزم آرت» أو الفن المرتبط بخصوصيات المرأة فيما يتعلق باحترام المشاعر والاحاسيس والرغبات والأحلام، وأيضا الحقوق في موازاة الشريك أو الآخر. في مدخل قصر الفنون تصدر تمثال صرحي ضخم، للفنان عبدالمجيد الفقي يمثل صورة لقوة الجسد، حيث يتسع الصدر من أعلي وهو ملثم بعباءة تتدلي علي كتفيه، والتشكيل في مجمله حافل بتنوع السطوح والفراغات مع الحركة الدائرية للعباءة التي تعكس لاستمرار اليقظة وهو يذكرنا بحارس الحقول لمثال مصر مختار مع اختلاف اللمسة والتعبير والأداء بما يعد إضافة نحتية. أما الفنان أحمد مرسي فيقدم من خلال تحريفاته للجسد الإنساني ايقاعاً سيريالياً يتوغل في الميثولوجي الإنساني من لوحة «الرجل والمرأة والسمكة»، إلي «آدم وحواء وأبنائهما»، أعمال تمثل مساحة عميقة من السحر الكوني. وتتألق أعمال الفنان أحمد نوار بين التجريد والتشخيص، في سبع لوحات صغيرة يصور جسد المرأة في ايقاعات عديدة، عاريات يتوهجن بالأبيض والأسود، تمثل دراسات ينساب منها الجسد بالمعاني من الصمت والسكون إلي الحركة والانسياب والرشاقة. ثم ينتقل بنا نوار في عمل آخر ينتمي لعالمه الميتافيزيقي الذي يجمع بين الإيقاع الهندسي وأطياف من الجسد الإنساني الذي أصبح كائنا فضائيا، تخلص من كثافة المادة وأسر الجاذبية الأرضية. الطرافة والسخرية وبعد فترة انقطاع عن العرض، نلتقي مع أعمال الفنان صلاح عناني التي تتميز بالطرافة والسخرية والمبالغات التعبيرية، وهو يصور في لوحة بائع الخبز علي دراجته وفي الأخري عبد الروتين يدق بأطرافه النحيلة علي «آلة كاتبة» قديمة، لكن تفوق النحت لديه علي التصوير من خلال تمثال من الأسود الأبنوس لشيخ ترتخي ساقه اليسري علي الأرض، وآخر يجسد نجماً شعبياً يقدم فقرات السيرك أو السامر، وهما تمثالان حافلان بالتفاصيل والدندشات الصغيرة مع تنوع الحركة وعمق التعبير. أما التشكيل النحتي للفنانة روسانا كورادو فهو مسكون بالرمز البليغ، يجسد امرأة عارية بلمسة أكاديمية وجناح ينساب في رشاقة من السلك، وهي تجسد حيرة الإنسان بين المادة والروح، وقد أكدت عملها بدراسة بالأبيض والأسود من ست لوحات صغيرة حول تلك الفكرة. ونطل علي لوحة صرحية للفنان حلمي التوني، تصور جسد أنوراينا «امرأة حسناء، بالأبيض البهي في ثلاث إيماءات، نظرة جانبية وأمامية وتظهرها، متوحدة مع البحر والهدهد المسالم يحلق حاملا سمكة حمراء، وهي تمثل واحدة من ذري فنه. ومازالت الفنانة آمال قناوي تجسد الحلم المجهض للمرأة من خلال هذا الجسد المتوحد مع كائن مجنح يجمع متناقضات الحياة، نري فيه الملاك والشيطان. ويمتد تشكيل الفنان محمد رضوان النحتي يجسد إنسانا في سطوح تجريدية ذات طابع تكعيبي، صورة لنقاء الكتلة وصفاء التعبير، وتمزج الفنانة نادين همام الهندسي بالعضوي من خلال ثلاث لوحات صرحية تضم 8 عاريات بالأحمر الطوبي مع الأزرق في تلخيص شديد يتفاعل مع تلك الشرائط العرضية. وعلي خلفية من النقوش يقدم تامر عاصم ثنائية للجسد الانثوي في ايقاع ينتمي لفن البوب أو الثقافة الجماهيرية، ويتألق بقوة الخطوط وحدتها بفرشاة عريضة. أما شيماء صبحي فتجسد التناقض الذي تعيشه المرأة الآن، وتلك الازدواجية، في ثلاثيتها التصويرية، نساء عاريات تخرج من نساء داخل خيمات، مع همهمات من الحروف تتكاثف علي السطح التصويري. ويلتقي الفنان عبدالمنعم الحيوان مع الفنان السيد عبده سليم في تناول الجسد الانثوي، مع اختلاف اللمسة والأداء، وهنا نلتقي مع جسد بلا رأس أو أطراف أشبه بالمانيكان، وبينما يركز الفنان عبدالمنعم علي المعني الحسي للجسد، يدخل بنا سليم إلي آفاق الأسطورة من خلال تلك النقوش السحرية العرضية والطولية. وفي شاعرية وإناقة شديدة ينساب الجسد في ثلاث لوحات للفنانة إيمان أسامة مع زهور وورود، تجعل من الجسد الانثوي مساحة من السمو والاشراق. وقدم الفنان خالد حافظ الجسد الإنساني في لوحتين بمساحة رفيعة من التعبير البليغ مع تنوع الوسائط، الأولي يمتد فيها جسد المرأة بهيئة كوبري من الساق ونهايته الرأسي يضم أسفله أربعة رسوم تشريحية للرجل، مع امرأة حسناء تتربع في يسار اللوحة. أما لوحة حافظ الثانية فهي تجسد النموذج المثالي لقوة وحيوية الرجل في مواجهة الآلة الجهنمية للحرب، وعلي خلفية من الأحمر الناري. حلم بنات حواء وبوعي شديد تجسد الفنانة هالة عامر حلم بنات حواء في الزواج من خلال تلك اللوحة التي تجسد فتاة حسناء جالسة علي كرسي كلاسيك تاهت معالمه، ويبدو جزء من جسدها من أعلي في لمحة جاذبية وبجوارها كرسي أنيق غني بالتفاصيل، كرسي خالي في انتظار العريس، في انتظار الذي يأتي ولا يأتي. وتستخدم الفنانة صباح نعيم وسائط كولاجية، تصور سبعة شخوص يجلسون علي مقعد طويل يوحي بمحطة أتوبيس، والأجساد هنا مثقلة من التعب، إنه الجسد الذي يذوب شقاء، مع تلك الألوان الرمادية الباردة والإطار الورقي العريض. ويلتقي معها الفنان هاني راشد لكن يعكس الصورة ونقيضها، في لوحتين الأولي تصور شخوصاً متكررة تحمل أكياساً رمزا لمعاناة الجسد والثانية تجسد تكرارية أخري لشخوص من اكسفورد علي خلفية من الأحمر القاني. وتنساب الخطوط الحمراء في حيوية شديدة مع المساحات الرمادية والسوداء، يتحول فيها جسد المرأة العاري إلي ايقاع يختلف من لوحة إلي أخري تبعا لحركة الحياة اليومية للفنان رضا عبدالسلام. ومن خلال ايقاع الفنان سمير فؤاد الذي يهتز فيه الجسد يصور طفلا عاريا مسكونا بالخوف، الخوف من المستقبل ومواجهة الحياة خاصة حين تكبر الرأس ويتضاءل الجسد. ويهمس الجسد العاري للمرأة بموسيقي الاستدارات والانحناءات في ثلاثية الفنانة نجلاء سمير التي تقدم من خلالها عالما من الأضواء والظلال يخرج من السطح المظلم ويشكل ملاحم من الايماءات يصحو فيها الجسد ويتحدث ويهمس ويغفو في صمت وايهام، إنه الجسد المليء بالأسرار. وفي ثلاث لوحات للفنان محمد الطراوي يتحول الجسد إلي مساحة لونية، بين الصمت والبوح، وايقاع ينقلنا من حالة إلي حالة، من خلال تعبيرية اللون. وبين الايماءات والطقوس، والعاري والمنقب، تطل أجساد الفنان عماد عبدالوهاب في صروحه التصويرية التي تتوهج تنساب بالزهور والورود والنباتات، يعكس لروح البوب. وإذا كان التصوير الجداري في الفن الفرعوني يتميز بغنائية صامتة إلا أن الفنان ياسر جاد قد بعث الحركة والحياة في لوحتين، إيماءة إلي تواصل الأصالة والمعاصرة، والتراثي والحداثي. .. وبعد ورغم كل هذا، ورغم ارتفاع المستوي إلا أن هناك أعمالاً خرجت علي سياق الجسد، مثل اللوحة التي عرضها الفنان محمد عبلة وعرضت من قبل أكثر من مرة في معارض عامة.. وليس من الضروري أن يشارك الفنان في كل الفاعليات التي تحدث طوال العام، خاصة وهناك أعمال هبطت بفنانيها مثلما نري في لوحتي الفنان عبدالوهاب عبدالمحسن، والتي غلب عليها طابع الاستسهال ، والمسافة بينها وبين رسومه وأعماله الجرافيكية كبيرة، وهناك أعمال أيضا خارج السياق مثل تلك السطوح المعدنية الدائرية، لكن تظل الغلبة لتلك الأعمال التي تبدو في عمق الموضوع، ولا ننسي صرحية الفنان عاطف أحمد التي جعلتنا نرتد إلي الأمام للأسف مثلما يحدث الآن، حين جسد لقطة من الزمن الجميل للفنانة هند رستم فيها قوة الجسد وحيويته في مقابل منقبة داخل خيمة مع تلك النقوش والزخارف العربية. تحية إلي ايقاع يمتد بالتنوع والثراء، يشدو فيه الجسد الإنساني.