جاء بينالي الإسكندرية الخامس والعشرون «اليوبيل الفضي» بمشاركة 16 دولة من دول البحر المتوسط و33 فنانًا.. في دورة تعد أقوي الدورات التي أقيمت من بداية الألفية الثالثة.. تؤكد علي خروجه من عنق الزجاجة بعد أن كان عرضة للصعود والهبوط والاهتزاز الشديد. وقد حمل شعار «ماذا بعد؟».. وهو شعار مفتوح علي شتي الطرق والاحتمالات والآفاق.. مفتوح علي الماضي والحاضر.. سحر التاريخ وعمق اللحظة.. يجعلنا نتساءل.. وهل من إجابة يجسدها الفن؟! ماذا بعد الخروج من عباءة التاريخ والجغرافيا إلي فضاء العولمة؟ وماذا بعد صدام الحضارات الذي يشهده العالم الآن؟ ويكفي هذه الدورة مشاركة الفنان الإيطالي مايكل أنجلو بيستوليتو كضيف شرف والذي يعد أحد أعمدة الفن الفقير «الأرت بوفيرا». أيضًا تألقت أعمال المشاركين في توازن شديد بين اللوحة ذات البعدين والفنون التي تنتمي لاتجاهات ما بعد الحداثة والتي ظهرت في الثلث الأخير من القرن العشرين.. وهي فنون تمتد بأفكار ومشاريع وبرامج مفاهيمية بوسائط متعددة.. ودنيا تسبح في فلك الإليكترون والثورة الرقمية «الديجيتال». إسبانيا.. إسبانيا كعادتها في كل دورة وبطول تاريخ البينالي تتميز إسبانيا بجدية المشاركة خاصة ولها إدارة تحمل اسم بينالي الإسكندرية.. وهذا ما جعل الجناح الإسباني ذا مكانة عالية من المستوي الرفيع. وها هو الفنان الإسباني ماليريانو لوبيز يجسد مأساة الهجرة غير الشرعية وحكام السفن علي الشواطئ خاصة منطقة جبل طارق متخذًا من لوحة الفنان الرومانسي الفرنسي جريكو «حطام السفينة ميدوزا» والتي صورها عامي 1818- 1819 خريطة الطريق لهذا العمل الذي ينتمي لفن التجهيزات «عرض بالفيديو وشرائح تصويرية» وهو يجسد في دراما شاعرية سفينة شراعية تحمل علي متنها جماعة من الأفارقة ومعهم مأساتهم.. وتبدو عائمة علي بحر من الاسطوانات ال C.D تجسد خارطة أفريقيا.. مصدر هذا الحدث الذي يتكرر بفعل الجوع والخروج بحثًا عن فرص عمل في بلاد الشمال.. ولا تعد الاسطوانات مجرد وسيلة اتصال ولكنها هنا أداة أساسية لتعايش هؤلاء المهاجرين الذين يتاجرون فيها فور نجاحهم في النزوح وهي تجارة غير مشروعة.. تجارة في أسطوانات منسوخة ومقرصنة.. وهذا ما يعمق المأساة ويجعلهم مطاردين بالبحر والبر. أما الفنان رومولوريو فيجسد في دراما سوداء لصراع الحضارات متمثلاً في جوانتانامو وأبو غريب.. يجسد صورة لكارثة تعرض الإنسان لظلم أخيه الإنسان بضراوة ووحشية.. ويمتد هذا العمل المأساوي بأدوات ووسائط عديدة «تجهيز في الفراغ» بين الرسم والتصوير والنحت.. وهو يشجينا ويؤلمنا ويديننا في نفس الوقت من خلال هذا الإنسان المجسم بالأسود الأبنوس والمعلق من رجليه داخل حصار خشبي ضاغط «مشنقة» حيث يبدو ساكنًا مجرد أمن الثياب.. عاريًا ومضغوطًا.. ومع تلك الصورة نطل علي تصاوير عديدة علي وسائط بيضاء تجسد وجوهًا قلقة مضطربة ومرعوبة بالأسود الفاحم.. شهادة علي العنف والوحشية وفي شريحة طولية يتدلي شخص من رأسه غارقاً في بقعة ضخمة من الدماء. يقول الناقد الإسباني مانويل روميرو: «تزمين رومولو إننا نعيش زمنًا معتماً.. في أعماله نطل علي عالم مليء بألسنة اللهب.. نطالع فيه هوة الظلم السحيقة وكثافة الظلال لتساعدنا علي أن نحسم شكوكنا!!». المرايا المحطمة يعد الفن الفقير أو «الأرت بوفيرا» من بين فنون ما بعد الحداثة.. وهو فن يجافي الخامات التقليدية مثل الأحجار والمعادن في ا لتشكيل مستخدمًا خامات قابلة للتحلل مثل مزقات القماش وأوراق الصحف والرمال والأخشاب.. وقد ظهر هذا الفن في إيطاليا.. ومن رموزه الكبار الفنان مايكل أنجلو بستوليتو.. ويعد عمله «فينوس الأسحال البالية» أيقونة هذا الفن وهو تشكيل قدمه مرتين عامي 1967 و1974 تبدو فيه فينوس في حضن كومة من الأسحال والملابس البالية مع تغير الوضع. شارك بيستوليتو كضيف شرف في بينالي الإسكندرية.. وهذا يعكس لقيمة البينالي هذه الدورة.. خاصة وقد فاز في بينالي فينيسيا بجائزة الأسد الذهبي عام 2003 عن مجمل أعماله وهي أعمال تمتد في مراحل متعددة.. مثل تشكيل الأرض والقمر من الورق والحديد.. وله تجهيز في الفراغ بعنوان «الحجرات» مع لوحاته التي صورها علي ألواح من الاستانلس بوسائط من الفوتوغرافيا بطريقة الشاشة الحريرية وجسد فيها مشاهد من الحياة اليومية للإنسان المعاصر.. وبالإضافة إلي هذا تمثل أعماله «المرايا» صورة مدهشة لفن الأداء «البيرفورمانس» وفن الحدث في نفس الوقت.. فبيستوليتو يقوم بتحطيم المرايا علي مرأي من المشاهدين.. في لحظة يطلون من خلالها.. وكأنه يحطم اللحظة التي يعيشها مجموعة من البشر.. وتتطاير الشظايا.. تاركة مكانها بقعًا سوداء وصورًا غائمة متكسرة.. ومثلما قام بيستوليتو بتحطيم المرايا في بينالي فينيسيا 2009 في أوبرا «بيرفورمانس».. قام بتحطيمها علي مرأي من مشاهدي بينالي الإسكندرية.. وكأنه يعلن تحديه للحظة معينة والانتقال بها إلي لحظة أخري وفي هذا تأكيد علي قيمة الحياة وأيضًا تأكيد علي قدرات الإنسان وإرادته الحرة. ومن إيطاليا أيضًا جاءت أعمال الفنان اليساندرو سكارامبلو في لوحات تصويرية تموج بعالم سيريالي يأخذنا ملمسه من الواقعية التعبيرية إلي قضايا الحياة الاجتماعية مصورًا العزلة.. وتدفق العنف والانخراط في التكنولوجيا وتسمم البيئة وعالمه يقطر بالسخرية والرغبات المحاصرة. الجائزة الكبري جاءت مشاركة الفنان المصري وائل شوقي «تجهيز في الفراغ- فيديو آرت» بعنوان تليماتش الحروب الصليبية.. وقد حصل عن جدارة علي جائزة البينالي الكبري.. وفي الحقيقة يعد فناننا الشاب من بين قلة من جيله ممن يدركون بوعي معني الفن بلغة جديدة تمثل انعكاسًا وعمقًا لما بعد الحداثة.. خاصة في هذا العصر المضطرب بالقلق والتوتر. ووائل شوقي تخرج من كلية الفنون الجميلة بالإسكندرية 1994 وحصل علي الجائزة الكبري من بينالي القاهرة في دورته السادسة عام 1996. وتمتد أعماله في اتساق شديد وتناغم.. في سلسلة تعكس معظمها لصدام الحضارات وهو يمزج بين الشرق الغارق في البخور والهمهمات والغرب المتقدم تكنولوجيًا والغارق في الماديات أو ما يسمي بتعبيره حضارة السوبر ماركت مثل فيديو «الكهف- 2006». وأعماله عمومًا يمتزج فيها السخرية بالغضب مجسدًا حالة الجمهور التي تخيم علي العالم العربي من ناحية وحضارة الغرب من ناحية أخري.. وتلتقي أعماله مع سلسلة تليماتش الألمانية وهي عبارة عن عرض تليفزيوني شهير في السبعينات حول بلدتين ألمانيتين نشبت بينهما كومة من الخلافات. في «تليماتش الحروب الصليبية» يلتقي التاريخ مع الواقع الحالي في لحظة واحدة.. وهو هنا ينعي التكاسل والخمول والصور السلبية للشرق الآن.. وفي عرض أفقي قدم خلف ساتر زجاجي 16 شريحة من الجلد الأسود والرمادي تصور في أكثر من إيقاع رمز الحروب الصليبية.. تصور الصليب مع النسر وهو رمز آخر لقادتها وفرسانها.. وأمام هذا التشكيل يطل تشكيل آخر مجسم «لقبة الصخرة». أما الفيديو فيصور مجموعة من الأطفال الصغار بجلاليب وطواقي بيضاء يمتطون حميرًا هزيلة.. يروحون ويجيئون في مواجهة قلعة محكمة عليها علم يحمل الصليب.. ولا شك أنه يقصد بهم ما عليه الشرق من الضعف الحالي ونقص الخبرة والوعي في مواجهة هذا البناء المحكم الذي يرمز إلي الحاضر والتاريخ وهل سنظل هكذا نعيش بلا فعل.. تحت مسوح لا صلة لها بالدين الذي هو الخير والحق والحث علي العمل الخلاق!!.. وهكذا جاء عمل وائل شوقي ليجيب علي شعار البينالي: «وماذا بعد». وعلي الجانب الآخر جاء عرض «ما بعد الفردية» لثلاثة من فنانينا: محمد عبلة- صباح نعيم- هاني راشد.. دون المستوي المرجو.. وهو عرض ينتمي لفن البوب «تجهيز في الفراغ».. لكن نفتقد إلي الدهشة والمتعة البصرية وفي نفس الوقت نفتقد إلي الدراما.. هو أشبه بفرح شعبي ساذج.. نطل خلاله علي سرة من الأضواء تتدلي من السقف وتنساب في أفرع من النور الملون في كل اتجاه داخل قاعة كاملة.. وعلي الحوائط تتناثر رموز من الشرق والغرب تمتد في كتابات ونقوش ورسوم وصور ضوئية مثل: صور لمواطنين مصريين وصورة لابن لادن.. وهيكل عظمي وسمكة وكلمة ياهووه بالإنجليزية والمخ الإنساني ونفرتيتي وبيكاسو.. وباقات ورد رخيص وحتي مرحاض!!.. كل هذا بشكل مفكك بلا رابط.. يقول الفنانون الثلاثة: هل هناك إمكانية أن يجتمع فنانون في عمل واحد وإلي أي مدي تذوب الفردية في وعاء جماعي؟ ونحن الآن أمام مغامرة جديدة لأننا ندرك صعوبة أن نعمل معا في عمل واحد.. لذا يبقي العمل مفتوحًا ويحمل كل سمات المغامرة.. وليت كلا منهم قدم مشروعه الخاص.. بعيدًا عن تلك المغامرة!! أما فناننا حازم طه حسين.. فتطل لوحاته الصرحية المتسقة ذات البعدين.. مسكونة بالشخوص التي تتحاور وتتجاذب وتتلاقي وكأنه يجسد الحلم.. حلم التصالح الإنساني.. كل هذا بألوان هادئة مهمة ضبابية وخلف سواتر شفافة. الدول العربية ومن لبنان قدمت الفنانة دوريس بيكار مجموعة أعمال تجسد «الشرق في عين الغرب» تتصدرها صورة ضوئية للورد كرومر وأخري من السلويت لنابليون بونابرت.. وهنا نتذكر الوطن القومي لليهود والحملة الفرنسية بالإضافة إلي مجموعة الخرائط الاستعمارية شكلتها بالكولاج وقوامه هنا تلك النقوش التي نطالعها داخل أظرف الخطابات.. ولا يخفي هنا معني الحنين والغربة والهجرة الاضطرارية «جائزة البينالي». وقدمت الفنانة التونسية نادية كعبي عمل «تجهيز في الفراغ» يمتد في كتابات علي الحائط تذكرنا بالفن الجرافيتي الاحتجاجي.. تدعو بالعامية التونسية علي من يلقي بالقمامة بجوار الحائط مثل: «الله لا يرحم والديه» وغيرها.. وعلي الجانب الآخر تقدم معملاً صغيرًا حول الحفاظ علي البيئة ومقاومة التلوث.. لمبة مضاءة بالكهرباء داخل شمعة تسيل داخل دلو.. وهي تجيب علي هذا التساؤل: كيف يمكن الوصول إلي بيئة مثالية آمنة؟! «جائزة البينالي». وتعكس الفنانة المغربية صفاء الرواس لمعني الألم.. من خلال هذا التشكيل الذي يطل علي الحائط «القمر بداخلي» والذي يجسد شخصية بلا ملامح.. شخصية ضائعة من إبر الخياطة.. وواضح بالطبع معني الألم بالوخز «جائزة البينالي». أما الفنان الفلسطيني تيسير بركات فقد قدم في رصانة وإحكام بالغ 18 شريحة تصويرية في مساحة البلاطات الصغيرة «20*20سم» مصحوبة بمتون شاعرية تحكي صورًا من الماضي والحاضر.. وذكريات الطفولة والتواجد العربي في الأندلس وملوك الطوائف والأميرات الصغيرات هناك.. واللوحات شكلها من برادة الحديد.. جسد شخوصًا مسكونة بالصمت غارقة في ا لسكون.. وشائج إنسانية أشبه بطبقات الأرض في الجيولوجيا «جائزة البينالي». نقطة الضعف مثلما حدث في بينالي القاهرة في دورته الأخيرة.. جاءت كل جوائز البينالي من نصيب الفنانين العرب وإذا كانت أحكام لجان التحكيم مطلقة.. إلا أن هذا يعد نقطة الضعف الوحيدة.. خاصة وهناك أعمال عديدة تتجاوز في قيمتها الفنية تلك الأعمال التي حصلت علي الجوائز باستثناء الجائزة الكبري. وعلي سبيل المثال هناك عمل «بوكس 2.0» لفنان وفنانة من سلوفينيا: نيكا أوبلاك وبريمو زنوفاك «فيديو آرت» داخل صندوق أبوكس وبداخله يظهر الفنانان محاصرين.. يتحركان حركات آلية.. في تكرار لا نهائي كمحاولة للخروج علي الإطار.. لكن يظلا محاصرين.. إشارة إلي الإنسان المعاصر وما يعاني من حصار وتقوقع بفعل الآخرين.. وإذا كانت الفنانة تبدو للمشاهد بكاملها.. إلا أن الفنان تطول قامته وتختفي رأسه.. ويظهر مكانها بروز علوي بالإطار.. إشارة إلي الإمعان في محاولة الخروج. أما الفنانة القبرصية يولا جورج فتقدم عملاً «فيديو آرت» يجسد فقدان الهوية بعنوان «الهدوء» من خلال حركات عصبية بيرفورمانس «أداء» لامرأة غارقة في دنيا من الظلال السوداء.. دنيا داكنة.. وهي تحاول التخلص من أزمتها.. هي حالة بين التعثر والتلاشي وفقدان الاتزان. وقدمت الفنانة التركية إنجي أفينير لوحتين إليكترونيتين.. إحداهما لوجوه تتحدث وسيقان نسائية علي أرضية من أوراق نباتية.. ويستمر الصراع بين الوجوه والسيقان تركل..!! إنه صراع من نوع آخر.. كما تقدم في اللوحة الثانية شبه متخيلة من الأحمر الناري تموج بثنائيات تتحرك في رداء واحد.. آدم وحواء العصر الحديث في حركة رتيبة تتكرر.. تجسيدًا لآلية العصر ورتابة الحياة المعاصرة. ولا شك أن ما قدمه الفنان اليوناني باخلوس نيكولا من تجسيد للهيمنة الثقافية إنما يجسد ببلاغة شديدة «تصوير» حال الإنسان المعاصر.. يجسده بلا رأس.. قدمه اليسري فوق رأسه التي سقطت والجسد له مسكون بالأسود علي خلفية سوداء.. مسكون برموز للحياة من الحاضر والتاريخ.. ويده اليسري تحمل عود ثقاب مضاء في العتمة مع انكسار من الأحمر الناري في مسطح الجزء السفلي للوحة!! تحية إلي بينالي الإسكندرية بعمق التنوع والثراء.. وتلك بعض ملامحه وقد جسد روح الإنسان المعاصر.. إنسان الألفية الثالثة.. وفي النهاية نقول: وماذا بعد؟!