البحث عن رأسمالية نظيفة بلا احتكار وتمييز توقع بريطانيون أن العام الجديد الذي بدأت أيامه ، سيكون محطة صعبة للغاية ، علي الرغم من آمال حكومية ، حتي لا تكون الضغوط قاسية علي المواطن ، مع بدء تنفيذ سياسة التقشف التي أعلنها وزير المالية جورج أوزبورن ، والساعية لتخفيض مبلغ 81 مليار جنيه استرليني من شبكة الانفاق العام خلال السنوات الأربع المقبلة. وعد رئيس الوزراء ديفيد كاميرون بسعي الحكومة للبحث عن بدائل تخفف من حصار سياسة التقشف ، غير أن الاتجاه العام هو توعية البريطانيين بحجم الأزمة والاعتماد عليهم ، كما يسجل التاريخ دائماً ، استجابة الشعب البريطاني لضغوط عامة تفرضها سياسات اقتصادية ، هدفها الحقيقي تهيئة المناخ العام لوثبة أخري نحو الرواج والاستعداد له بالتأهيل اللازم. مصارحة الحكومة تصارح الرأي العام بطبيعة الأزمة ، وقد حدد وزير المالية جورج أوزبورن الأمر بدقة شديدة ، بقوله إن خطة الانقاذ باعتماد سياسة التقشف ضرورية للغاية لابعاد شبح الانهيار والافلاس معاً بعيداً عن شواطئ البلاد. بلورت حكومة التحالف القائمة في لندن ، خطة واضحة لانتشال الاقتصاد من عواصف هائجة ، واضطرابات قاسية وتهيئة المواطن لعام صعب ، قد يؤدي في النهاية نحو انفراج وعودة الرواج المرتقب نتيجة التقشف ووقف نزيف الانفاق العام واعادة هيكلته علي أسس متينة . يساعد الحكومة الحالية استنادها علي ائتلاف قوي بين المحافظين والليبراليين ، ولولا هذا التحالف لكانت المسألة أكثر صعوبة ، اذ أن التكاتف السياسي يضمن تأييد أغلبية الشارع لاجراءات التقشف القاسية ومحاولة استيعابها . لقد صمدت حكومة كاميرون ونك كليج زعيم الحزب الليبرالي لتظاهرات غاضبة اجتاحت وسط لندن احتجاجاً علي رفع الرسوم الجامعية ، من ثلاثة آلاف جنيه استرليني الي تسعة آلاف دفعة واحدة . كانت التظاهرات قاسية وغاضبة وتوجهت الي مقر حزب المحافظين واعتدت عليه، غير أن تماسك الحكومة جعلها تفلت من أزمة ضارية في البرلمان ، اذ جاءت نتيجة التصويت لصالح قرار وزير المالية ، وذلك للتحالف المحافظ الليبرالي القوي ، علي الرغم من اعتراض بعض الأصوات في صفوف حزب الأحرار. افلاس وتراجع وهناك توقعات أن يشهد العام الجديد احتجاجات مماثلة داخل قطاعات العمال والموظفين والنقابات نتيجة لارتفاع حجم البطالة الناجمة عن افلاس شركات وتردي حركة التجارة الداخلية . وعلي الرغم من الأزمة الشديدة وطرق معالجتها ، لكن الثقة في الحكومة تضمن الاستمرار ، لأن الاحتجاج لن يؤدي الي اسقاطها ، اذ تحتفظ بأغلبية داخل مجلس العموم بسبب التحالف بين المحافظين والليبراليين وضعف المعارضة العمالية ، التي تحاول تقوية عضلاتها بعد هزيمة مدوية لها في العام الماضي . العام الجديد يحمل التحديات نفسها التي ظهرت في العام المنصرم ، لكن الحكومة تعد بالتحرك وتراهن علي استثمارات وعلاقات تجارية قوية مع دول الخليج وتنفيذ صفقات تم التوصل اليها لتحريك القطار الاقتصادي بقوة دفع نابعة من علاقات قوية مع دول المنطقة العربية خصوصاً الخليجية . هناك من جانب آخر توقعات بالانتعاش نتيجة تنفيذ صفقات تجارية وصناعية وتوسيع مناطق لاستيعاب المنتجات البريطانية في عدة بقاع مختلفة من العالم . تقود وزارة الخارجية حملات في هذا الاتجاه ، من أول منطقة الخليج حتي الوصول الي الصين والهند وتنشيط محاور لاستيعاب الانتاج الصناعي والزراعي واستقبال تكنولوجيا بريطانية قادرة علي المنافسة . ولهذا السبب حافظت الحكومة علي مستوي الانفاق بشأن التعليم والصحة ، والبحث عن طرق لتخفيف دفع الرسوم الجامعية باعطاء المنح لغير القادرين وترتيب دفع هذه الأموال بعد تخرج الطالب من الجامعة وتسلمه لعمل مجزٍ ويكون ولديه الفائض من راتبه للوفاء بديونه المستحقة للدولة . وهناك وعود من الحكومة للرأي العام بالعمل علي تحسين الموقف وضبط الوضع الاقتصادي وتنشيط حركة البنوك في اتجاه الانفاق علي التنمية وادارة المشروعات الناجحة وتمويلها ، مع انهاء الأزمات التي ترتبت عليها حقائق الوضع الاقتصادي ، نتيجة التوسع في اقراض بلا ضمانات لتمويل شراء العقارات والمضاربة بها في الأسواق. تنشيط الانتاج هناك محاولة يقودها وزير الدولة لقطاع الأعمال فينيسنت كيبل بتمويل المشروعات الاستثمارية والانتاجية وخنق قنوات المضاربة ومحاولة جني الأرباح بسرعة دون الالتفات الي حقائق مرتبطة باقتصاد يعمل لصالح المجتمع كله وليس لفئة رقيقة منه . والحقيقة أن الأزمة الاقتصادية طرحت الاصلاح الشامل لأوضاع البنوك والتأكيد علي رأسمالية تنتج لصالح المجتمع وتحقق الرواج مع العدل أيضاً ، ولا تتيح للشرائح الطفيلية القدرة علي الاحتكار للمال والتجارة والصناعة وحركة البنوك . من فوائد الأزمة الاقتصادية اعادة انتاج رأسمالية نزيهة غير محتكرة ، خاضعة لاشراف الدولة التي تراعي جميع مستويات الحياة ولا تنحاز لطبقة ضد أخري ، فهذا ليس دورها . ولعل تشكيل حكومة ائتلافية يشارك فيها الحزب الليبرالي ، من نتائج هذا التوجه ، اذ أن الأحرار ضد الاحتكار بكل أنواعه يعادون التمييز الاجتماعي ويعملون لصالح المجتمع وليس لتنمية فئات قادرة وأخري محرومة وضعيفة تعاني جميع الأمراض الاجتماعية . هناك وعد حكومي بتنمية عادلة ، مع ان أحد طرفي الحكم ينتمي الي التيار المحافظ ، وقد اشتهر عنه الأنانية وضيق الأفق الرأسمالي ، لكنه يدرك أن الموقف يحتاج لاصلاح جديد يدفع بالمجتمع كله نحو تنمية ، يعود ريعها لصالح المجتمع دون خلق طبقات وهمية ، ليس لها دور في الانتاج وتحصل علي النسبة العالية من ريع الدولة. بريطانيا تجدد نفسها علي الرغم من أزمة اقتصادية طاحنة ، والاختناق الاقتصادي يعيد انارة الطريق لتجنب الأخطاء ، ومعرفة أن تنمية سليمة تعود علي المجتمع بالخير والرفاة. الأزمة الاقتصادية تعيد خلق الأفكار الجديدة والمدافعة عن ديمقراطية اقتصادية ، أفرزتها ديمقراطية سياسية حقيقية ، اذ إن وقت الأزمات تتجه المجتمعات نحو استنفار شامل ، مع وعد بالعدالة وتأكيد الحرية وانهاء التمييز ورفع روح التفاعل والتناغم الي أقصي درجاتها .