لكن اتحاد العمال المصري تحت قيادة اليسار لم يكن صيدا سهلا، وبرغم كل الضغوط واستخدام العنف الأمني وزعامة سعد زغلول، ظل النشاط العمالي البعيد عن السلطة مستمرا، وكانت الحكومة الاحتلالية قد شكلت في عام 1919 لجنة أسمتها «لجنة التوفيق» وقالت إن هدفها السعي في الصلح بين العمال وأصحاب العمل وتولي رئاستها الدكتور جرانفيل.. لكن الحزب الشيوعي واتحاد العمال اللصيق به رفضا اللجنة وتشكيلها وشن حسني العرابي سكرتير عام الحزب هجوما عنيفا علي اللجنة واتهمها بالاستبداد والعمل لصالح أصحاب الأعمال، ونشر فؤاد الشمالي أحد قادة اتحاد العمال بيانا قال فيه «إن لجنة التوفيق حجر عثرة في طريق العمال، وأنها وإن لم تكن سلطة تنفيذية إلا أنها ترفع تقارير يتأثر بها المسئولون» (الأهرام 17-3-1923).. ثم قرر اتحاد العمال اليساري اتخاذ خطوة جديدة تماما لمواجهة لجنة التوفيق فنظم عماله مظاهرات أمام منازل أعضاء اللجنة احتجاجا علي تحيزهم لصالح أصحاب العمل، وحاول البوليس فض الاعتصامات بالقوة ووقعت معارك عدة انتهت بالقبض علي عديد من العمال.. والحقيقة أن انحياز الوفد وحكومته وزعيمها المهيب سعد زغلول قد شجع رجال الأعمال علي اتخاذ ممارسات غير مسبوقة، فشركة الغزل بالإسكندرية قررت فجأة تخفيض أجور العمال بنسبة 10% وأضرب العمال وبرغم تدخل لجنة التوفيق صمم أصحاب العمل علي قرارهم واستمر إضراب العمال ثلاثة أشهر والشركة مصممة وانتهي الأمر بتراجع العمال، أما صاحب مصنع إيجولين للزيوت فقد انتهز هذه الفرصة أيضا وقرر فصل مائة عامل بحجة توفير أجورهم، وأدرك العمال أن صاحب العمل يستدرجهم إلي الإضراب ثم يستند إلي دعم حكومة الوفد في توجيه ضربات لهم، فتقدم العمال بعرض مثير للدهشة ملخصه أن يتقاضي كل عامل أجر خمسة أيام وأن يتنازلوا عن أجر اليومين ليوفر صاحب العمل المبلغ المطلوب دون فصل للعمال، ورفض صاحب المصنع» (الأهرام 26-2-1924) وانتهي الأمر بإضراب عمالي تدخل الأمن علي أثره وفض الإضراب بالقوة وقبض علي عدد من قادة الأحزاب وحكم عليهم بالسجن، ومع ذلك ظل العمال يضربون وينفذون شعار اتحاد العمال «الحقيقي» «أيها العمال ضعوا أيديكم دوما علي المحراث» أي اعتصموا في المصانع، فقد اعتصم عمال شركة الغزل واحتلوا مصانع الشركة تماما يعملون بالنهار وينامون في المصنع ليلا (الأهرام 25-2-1924)، وتصادم عمال مصنع الخواجة أبوشنب مع البوليس في محاولة للاعتصام وجرح شرطيان وعدد من العمال واقتحم 250 عاملا المصنع واعتصموا فيه (الأهرام 4-3-1924) كما أضرب عمال تفتيش حلق الجمل التابع لشركة البحيرة واستمر الإضراب ستة أسابيع (محضر نقاش مع عبدالرحمن فضل وكان أحد قادة الاضراب) والمثير للدهشة أن عبدالرحمن فضل وهو أحد الذين سافروا للدراسة في معهد كادحي الشرق في موسكو قال في نقاشي معه «رغم تدخل سعد زغلول تصاعدت الإضرابات، واستولي عمالنا علي ثلاثة فابريقات بالإسكندرية واستمر اعتصامهم 15 يوما حتي فضه البوليس بالقوة، وكانت حركتنا الإضرابية شديدة النشاط إلي درجة أن ستالين وجه نداء إلي عمال ألمانيا قال فيه «كونوا ثوريين حقا وافعلوا كما يفعل العمال المصريين». والمثير للدهشة أن إصرار سعد زغلول علي تصفية هذه الموجة الإضرابية بالقوة قد أثار جريدة الاجيبسيان جازيت فكتبت مهاجمة النشاط الوفدي وسط العمال «لأن حركة الوفد لا تستدعيها غيرته علي مصالح العمال، وإنما لأن البعض وجد أن الطريق العادي للتقدم مسدود أمامهم، فأخذوا في البحث عن وسائل أخري تمكنهم من خلق مراكز تخدم أغراضهم السياسية (the egyptian gazeite 1904-1924) لكن الأهرام وبإيعاز من الوفد رد عليها قائلا «إن العمال في كل بلد محتاجون لمن يأخذ بيدهم في كل طور من أطوار الانتقال من عهد عتيق إلي عهد حديث، وأن تدخل الوفد إنما يرمي إلي إيجاد جو هادئ يعيش فيه العامل مطمئن البال راضي النفسي بعيدا عن الفوضي والعبث بالنظام» (الأهرام 22-4-1924) وهكذا فإن تدخل الوفد في الحركة العمالية لم يسيء إلي العمال وحدهم ولم يتخذ سبيلا لتدمير اتحادهم وسجن قياداتهم فقط، وإنما أغضب الأحزاب والقوي الرجعية التي خشيت من أن يكون النشاط العمالي ظهيرا للوفد وقوة إضافية له ففي عام 1935 وعندما قرر الوفد وبناء علي تقرير تقدم به عزيز بك ميرهم قام الوفد بتأسيس ما أسماه «المجلس الأعلي للنقابات برئاسة حمدي باشا سيف النصر، فهاجت دوائر الاحتلال ودوائر رجال الأعمال ونشرت الديلي تلجراف برقية لمراسلها في القاهرة تقول «إن هذا القرار هو أهم تطور سياسي منذ عام 1922 فهناك مكتب حكومي للعمل والعمال ويعتقد الكثيرون أن هذا تدخل في شأن هو حكومي بذاته (12-2-1935) ووجه إسماعيل صدقي باشا كواحد من قيادات أصحاب الأعمال رسالة إلي نسيم باشا رئيس الوزراء محذرا من أن الوفد يسعي لاتخاذ طوائف العمال أداة لأغراضه السياسية» (عبدالمنعم الغزالي – تاريخ الحركة النقابية المصرية – ص181)، لكن الوفد لم وحده في محاولات اختراق الحركة العمالية ولكن كانت هناك محاولات أخري منها مثلا محاولة محجوب بك ثابت في تأسيس اتحاد للعمال بعيدا عن الأحزاب ووجه نداء «أيها العمال جانبوا الأحزاب لمصلحتكم ومصلحة الوطن ولا تكونوا مطايا لأشخاص، احذروا الزعماء والمتزعمين وسماسرتهم المستغلين، لا تتحزبوا بل قفوا من الأحزاب موقفا سلبيا» (أمين عزالدين – تاريخ الطبقة العاملة – ص34)، ولم يكن محجوب وحده فثمة محاولات عديدة لكنها باءت جميعا بالفشل مثل محاولة «عزيز بك ميرهم» (الوفد) وداود راتب بك (حزب الأحرار الدستوريين) وأدجار جلاد باشا (السراي) (د. رءوف عباس – الحركة العمالية في مصر 1899 – 1952 – ص143).. وبرغم توالي الفشل يبقي حلم امتطاء الرجعية المصرية للحركة العمالية مستمرا.. وتكون محاولة ذات قدر من الجدية من جانب النبيل عباس حليم. لكن هذه المحاولة كانت في منتصف الثلاثينيات.. ونحن لم نزل في منتصف العشرينيات.. ولم نزل بحاجة إلي متابعة نشاط اليسار في صفوف العمال في هذه الفترة.