وبعد جرعة غير معتادة من مديح منحه الزعيم للعمال عاد ليملي تعليماته، وبعد أثني علي عبدالرحمن فهمي ومساعده حسن نافع «ثناء جميلا لما أزجياه عليكم من النصائح الغالية، وما أوصياكم به من التمسك بالصدق وحسن المعاملة والوفاء والطاعة وحسن النظام».. الطاعة.. الوفاء.. حسن النظام ثم «فإذا درجتم علي هذا المنوال الذي رسم لكم فإن الحكومة التي هي حكومة الشعب تساعدكم» (المرجع السابق – ص241)، ويسرع الوفد محاولا إحكام قبضته علي الحركة العمالية فأصدر مجلة نصف شهرية باسم «العمال» ورأس تحريرها محمد متولي سويلم في 18 أبريل 1924 وبعدها بعدة أسابيع أصدر مجلة أخري أسماها «اتحاد العمال» وترأست تحريرها نجاة عبدالعزيز، ويواصل الوفد استخدام الأداة الحكومية في تحرير اتحاده «ففي حفل افتتاح فرع الاتحاد بالفيوم حضر محمود بك صبري مدير تخطيط المدن بمصلحة التنظيم ومندوب الحكومة لدي النقابات ود. حسن نافع أفندي وعبدالستار بك الباسل وعلي بك نجيب أعضاء مجلس النواب وأيضا سعادة مدير الفيوم وحكمدار البوليس بالفيوم وكبار الموظفين، وقد قضي الضيوف ليلتهم في سراي سعادة المدير» (اتحاد العمال 16 – 11 – 1924)، والحقيقة أن هذه الحركة العمالية الوفدية قد حققت نجاحا كبيرا ربما بأمل رواد العمال بأن يكون الوفد وزعيمه في صف مطالبهم ففي الثلاثة أشهر الأولي لتأسيس نقابة العمال بلغت عضويتها 12000 وتزايد كثيرا عندما تحولت النقابة إلي اتحاد عام (اتحاد العمال – 12 – 6 – 1924)، وفي مؤتمر حاشد عقد بالإسكندرية بمناسبة تأسيس فرع الاتحاد تحت رئاسة محمد بك حسيب نقيب المحامين قال محمد أفندي فؤاد في خطابه «إن الاتحاد يجمع نيفا ومائة نقابة تضم نحو مائة وخمسين ألف عامل، فضلا عن الجهود التي لايزال يبذها العمال لتوحيد كلمتهم وينتظر أن تتكون مائة نقابة أخري قريبا» ثم قال «إن هذا النجاح العجيب كان إن شهرين فقط» (اتحاد العمال 16 – 6 – 1924).. وتتواصل في نفس عملية إقصاء اليسار، أو بالدقة تعقيم الاتحاد الوفدي من أي تأثير لليسار، وتقرأ في مجلة «اتحاد العمال» مقالا لمحمد أفندي فؤاد يقول فيه: «دفع الطيش بعض الشبان الذين لا خلاق لهم بالإسكندرية وغيرها من المدن إلي اعتناق مذهب الشيوعية واحتالوا بهذا المذهب علي العمال، فنفثوا هذا السم فيهم، وكاد هذا الداء العضال أن يتفشي في هيكل الأمة، لولا أن قبض الله بعض رجال الحكم من ذوي الفطنة فاعتقلوا هؤلاء الشبان الآثمين وزجوا بهم في أعماق السجون جزاء ما قدمته أيديهم وما جنوه من الذنوب» وبعد هذا التهديد المبطن يمضي المقال «وقيض الله في هذا الظرف العصيب للعمال سعادة عبدالرحمن بك فهمي زعيم العمال فانتشلهم من هذه الهوة التي كادوا أن يقعوا فيها» (اتحاد العمال – 21 – 6 – 1924).. وفي افتتاحية العدد الأول من مجلة «العمال» الوفدية نقرأ لرئيس التحرير «واجب العمال أن يتضامنوا ويتآلفوا تحت لواء واحد وزعامة واحدة وأن يطرقوا باب الإصلاح بالطرق المشروعة والحكومة نفسها لا تضف عليهم بما يطلبونه مادام في دائرة المعقول، بيد أن من يتعجلون الأمور لا يتفقون معنا في الرأي ويحاولون الطفرة وهي محال.. ولا تسر أصحاب المدارك ومن ذلك أن نري أعمالا مكدرة قد تضطر ولاة الأمر في العهد الدستوري إلي كبح جماح الخارجين علي القانون والنظام» (العمال – 18 – 4 – 1924) وتتبدي حقيقة المطلوب من الهيمنة الوفدية علي الحركة العمالية في خطاب عبدالرحمن فهمي في افتتاح فرع الاتحاد بالفيوم إذ يتساءل فهمي «ما هو الجاه؟ وما هو المال؟ وما قيمتهما؟ هما زائلان بزوال الزمن، فانيان مع العمر ولا يبقي إلا العمل الصالح والذكري الطيبة، إن العامل الذي يطمع فيما بيد أصحاب رءوس الأموال بلا حق إنما يسعي لدمار بلاده وخراب سوقها الاقتصادي، فإننا في حاجة لأن نثبت للعالم أن العامل المصري متمسك بحقه فقط، فلقد قبلت زعامتكم لأدافع عنكم وأحمي مصالحكم فلا تنتظروا مني أن أحاول الحصول لكم علي أكثر من حقوقكم، فإني كما أدافع عنكم وعن حقوقكم أدافع عن حقوق الشركات ولو لم تكلفني هي بذلك، لأن حماية مصالحها صيانة لمصالح بلادنا التي فتحت صدرها للأجانب لتستفيد منهم ويستفيدوا هم لأنهم ضيوفنا ولقد اشتهرتم بإكرام الضيف، واعلموا أن هؤلاء القوم الذين يقولون إن العامل يشتغل طوال يومه وليلة بأجر زهيد بينما صاحب رأس المال يكدس الذهب إنما هم قوم يفسدون العقول والعقائد» (اتحاد العمال – 6 – 11 – 1924). وعندما أضرب عمال فابريقة المعصرة توجه إليهم عبدالرحمن فهمي طالبا منهم «تفويضه في حل الأشكال» وما أن فوضه العمال تفويضه حتي أصدر لهم أوامره بفض الإضراب والعودة فورا إلي العمل وتقول جريدة اتحاد العمال «إن العمال قدروا ذلك النصح الغالي بالطاعة الواجبة، فهي نصيحة أبوية سلمية غالية» (19 – 6 – 1924)، وعندما أضرب العمال الزراعيون في تفتيش المطاعنة التابع لشركة السكر الإضراب احتجاجا علي عدم منحهم علاوات طوال خمسة أعوام، وجه لهم محمد فؤاد سكرتير عام الاتحاد لوما شديدا وقال «ولو أني أشفق علي العمال إلا أني أوجه لهم بعض اللوم، فقد كان الأجدر بهم أن ينظروا بعين الحكمة، وكما صبروا علي آلام خمس سنوات فليتحملوا شهورا أخري، فالشعب كله ضائع الحقوق، ونحن جزء من الشعب فلنا سلوي وعزاء وأن الله مع الصابرين ولا يضيع أجر المستحقين» (اتحاد العمال – 15 – 2 – 1925) وفي الإسكندرية تعرض عمال مطبعة لاغوداكس لضغوط شديدة من صاحب العمل فقد حرمهم من المكافأة السنوية وفصل العمال النقابيين قائلا من كان عضوا في النقابة لا عمل له عندي ثم خفض الأجور بنسبة 40%، وبدأ العمال في التحضير للإضراب لكن اتحاد العمال الوفدي قاوم فكرة الإضراب بشدة وضغط عي العمال مواجها فكرة الإضراب وتنشر جريدة العمال «إنه من نقاوة قلوب العمال وطهارة ضمائرهم وميلهم إلي حب رفضوا الإضراب واكتفوا بتوجيه إنذار لصاحب العمل عن طريق المحافظ» (30 – 6 – 1924).. وأدرك العمال سريعا حقيقة اتحاد العمال الوفدي وأنه مجرد أداة برجوازية لإخضاعهم للاستغلال الرأسمالي وتسرب العمال من الاتحاد فبعد أن بلغ عددهم 000.35 في السنة الأولي تراجع إلي 000.13 في عام 1927 ، وفي بعض النقابات كانت نسبة الانسحاب 70% بما أفقدها مقدمات الاستمرار» (The Labour monthly – may 1928) وعلي أية حال فما أن اعتقل عبدالرحمن فهمي في حادث مقتل السردار، ثم ما أن جاء زيور باشا إلي الحكم خلفا لحكومة الوفد حتي انهار الاتحاد تماما واختفي من ذاكرة التاريخ مسجلا الفشل التام لأول محاولة للسيطرة البرجوازية علي النضال النقابي العمال.