ويمكن القول أن أول إضراب عمالي بالمعني الحديث قام به العمال اليونانيون في شركة قناة السويس واستمر الإضراب 15 يوما. (دار الوثائق القومية- محفظة 105 داخلية افرنكي – تقرير محافظ عموم القنال عن بيان الحوادث التي وقعت بين شغالي الكراكات وقومبانية القناة من أول أكتوبر 1894 لغاية 15 منه). وسريعا تتحقق المحاكاة وتتخذ طابع انطلاق العمال المصريين في تشكيل تكوينات نقابية أو شبه نقابية. نقابة لفافي السجاير 1899 – اتحاد عمال الخياطين 1901- نقابة الحلاقين 1901- جمعية عمال المطابع 1901- جمعية عمال الأدوات المعدنية 1902 – جمعية كتبة المحامين 1902، وعندما وجد العمال أن التشكيل النقابي العلني قد يهددهم لجأوا إلي تشكيل تكوينات سرية مثل «جمعية بؤساء السكة الحديد» التي تصدت لقيادة عديد من الإضرابات والاعتصامات ضد تعسف الإدارة، والحقيقة أن أحوال العمال المصريين كانت بالغة القسوة فالأجور شديدة التدني ، فأجر العامل غير الفني في المحالج كان ثلاثة قروش يوميا، أما عامل الترام فكان أجره 8 قروش يوميا مقابل 13 ساعة عمل يوميا في الترام و17 ساعة يوميا في المحالج و16 ساعة في المطابع. مع استمرار ارتفاع الاسعار بصورة مطردة فثمن أقة اللحم قفز من قرشين إلي أربعة، كما ارتفعت أسعار القمح والذرة والفول بصورة كبيرة. (الأهرام 15-1-1910) ولجأ العمال إلي تعبئة الرأي العام إلي صفهم للضغط علي الرأسماليين الأجانب، ومديري المرافق الحكومية الذين كانوا ايضا من الأجانب، بما يوضح أن حركة الطبقة العامة لم تكن في ذلك الحين مجرد معركة اجتماعية وأنما كانت ايضا معركة وطنية. وتنشر الأهرام رسالة لأحد العمال تقول «إن أعمال مصلحة السكة الحديد صعبة جدا وخطرة للغاية، وعمالها جميعا محفوفون بالأخطار، والوردية تمكث لمدة 12 ساعة تعقبها 12 ساعة راحة وإذا مرض أحدهم لا يجد طبيبا ولا دواء حتي يموت» (الأهرام 19-8-1908) ويبعث أحد عمال الترام رسالة إلي الأهرام «إن شركة ترام القاهرة تشغل عمالها أكثر من 14 ساعة في اليوم مقابل مرتب اثنين جنيه في الشهر وإذا مرض يوما تخصم منه أيام الانقطاع وتأمر بإيقافه ورفته لأسباب واهية. أن شركة كهذه لا تسرق أوراقا ولا تختلس أموالا ولكنها تسرق أرواح العمال وتتسبب في قصف حياتهم» (الأهرام 12-2-1907) ووجدت مثل هذه الرسائل صدي ايجابيا لدي عديد من الشخصيات الديمقراطية ولدي الحزب الوطني علي وجه الخصوص ويكتب محمد فريد بعد أن أصبح رئيسا للحزب سلسلة مقالات دفاعا عن حقوق العمال قال في أحدها «لا يوجد بمصر قوانين خاصة بحماية العمال ولا قوانين تحدد سنهم ولا عدد ساعات عملهم فنجد العمال مثقلي الكواهل بلا رحمة» (أمين عز الدين- تاريخ الطبقة العاملة حتي 1919- ص125) وعندما اضرب عمال الترام ساندتهم جريدة اللواء معلنة «أن المتأمل في المطالب التي عرضها العمال يعرف مبلغ عدلها وصوابها فإنهم لم يطلبوا المستحيل، وإنما طالبوا بأن يحفظ التناسب بين الحقوق والواجبات وأن يأخذوا الكفالة الكافية لهم وألا يضاموا أو يرهقوا، وأن يكون الأجر علي قدر العمل وللعمل وقت محدد، وهذه الروح التي سرت في أولئك العمال أشعرتهم أن لهم حقوقا ضائعة وجمعت صفوفهم لطلبها بطريقة عادلة، وهي روح تبشر بدخول طوائف العمال عندنا في عهد جديد من الحياة الحية والتضامن الاجتماعي» (اللواء- 18-10-1908) كذلك كون الحزب «نقابة الصنائع اليدوية» وكانت أكبر تشكيل نقابي عمالي في مصر في ذلك الحين. وبالمقابل فإن حزب الأمة واجه هذه النهضة العمالية بهجوم شديد وانتابته حالة من الفزع وتكتب الجريدة « تسري عدوي الأفكار كما تسري عدوي العلل والأدواء من فرد لفرد ومن بلد لبلد.. وإذا فكرنا في اعتصام عمالي الترامواي في العاصمة ثم قيام زملائهم اليوم بالإسكندرية باعتصام جديد حكمنا مع الاعتقاد التام بأن ما يجري هو نفحة من نفحات الاشتراكية» (الجريدة -6-8-1911) والحقيقة أن الجريدة كانت منذ البداية تقف بالمرصاد لفكرة التحرك العمالي بأي شكل من الأشكال ، ومع أول إضراب عمالي قام به عمال مصريون في 1902 كتبت الجريدة مقالا ضد مبدأ الإضراب قائلة «إن الإضراب داء جديد جلبه الغرب إلي الشرق ، وهذا هو مبدأ الفوضي وأول مراتبها». وعلقت الأهرام علي ذات الإضراب متهمة العمال المضربين بأنهم «يقلدون العمال الأوروبيين تقليد القردة، وهو تقليد فاسد ومضر بهم» (الأهرام 19-8-1908) أما جريدة المقطم الموالية للاحتلال فقد شنت خلال اضراب 1908 هجوما عنيفا علي الحكومة وعلي تهاونها في ردع هؤلاء العمال وقالت «إنه إغفال شديد لا يقبل فيه عذر لمعتذر ولا يدعو الناس للاطمئنان بعد الآن، إن قيام العمال بالاتفاق السري فيما بينهم علي الإضراب دون علم الحكومة وبوليسها العلني والسري وعيونها وارصادها أمر خطير جدا، فماذا يمنع العمال أن يدبروا المكايد والمؤامرات ليضرموا في البلاد نيران الثورات قبل أن تعلم الحكومة بأمرهم؟» (المقطم 18-10-1908) وبالفعل استجابت الحكومة لتعليمات المقطم فبدأت في اعتقال عدد من القادة النقابيين ونفيهم إلي قراهم الأصلية ومن بينهم أحمد لطفي عضو نقابة عمال الترام، وأحمد رمضان زيان رئيس نقابة الصنائع اليدوية بالإسكندرية ومحمد عوض جبريل سكرتير النقابة وعشرات غيرهم. لكن المسيرة العمالية تتواصل وتتصاعد الإضرابات بصورة لم تكن متوقعة. ويكون الشعب المصري سندا حقيقيا للعمال المضربين.. بما يوحي بأن الحس الشعبي لم يغفل عن أن المعارك العمالية كانت تعبيرا عن مطالب اجتماعية لكنها أيضا كانت موجهة ضد الشركات الأجنبية وممثلي الاحتلال في مختلف مرافق الدولة. واستنادا إلي هذا التأييد الشعبي.. تواصل النضال العمالي.