كنت حريصا علي مشاهدة مسلسل (عمر).. الذي يتناول سيرة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، وكان يتداعي إلي ذهني ما لعبه عمر بن الخطاب من أدوار في تاريخ الإسلام، وعندما أسلم كان ذلك بداية عهد جديد للرسالة الخالدة، فقد أعز به الله الإسلام، وعندما تولي الخلافة أبو بكر الصديق، كان عمر نعم الوزير الناصح الأمين، وعندما تولي الخلافة، نشر حضارة الإسلام في أماكن لم تكن تخطر علي بال، وترك تراثا عظيما عندما نهض بالإصلاح الاجتماعي والاقتصادي والإداري في مختلف البلدان التي دخلها الإسلام. والحديث عن شخصية الفاروق عمر يحتاج إلي مجلدات، والحديث عن إنجازاته يحتاج أيضا إلي مجلدات. ومن هنا فإن الحديث عن ابن الخطاب في هذه السطور هو مجرد إشارة أصبع إلي هذه القمة الشاهقة من قمم أبطال الإسلام. وقد قرأت كثيرا من المؤلفات عن شخصية عمر ورؤيته المستنيرة لكثير من الأمور، وكيف تحطمت علي يديه إمبراطورية الفرس، وإمبراطورية الروم، ومع ذلك ظل عمر هو عمر.. التواضع.. والزهد.. والتقشف.. والرأفة.. وحب الأرض.. لقد تجسدت فيه كل قيم الإسلام وفضائله ومبادئه. وأروع وأجمل ما في شخصيته، عندما يحاسب عمر نفسه.. عندما ينصب نفسه قاضيا علي أفعاله وسلوكياته هنا لا تملك نفسك إلا أن تقول: إنه عمر. يقول الأحنف بن قيس: كنت مع عمر بن الخطاب فلقيه رجل فقال: يا أمير المؤمنين انطلق معي فأعدني علي فلان فقد ظلمني.. فرفع عمر درته وخفق بها رأس الرجل، وقال له: تدعون أمير المؤمنين وهو معرض لكم، مقبل عليكم حتي إذا شغل بأمر من أمور المسلمين أتيتموه: أعدني أعدني فانصرف الرجل غضبان أسفا، فقال عمر: علي بالرجل فلما عاد، ناوله مخفقته وقال له: خذ واقتص مني..! قال الرجل: لا والله، ولكني أدعها لله.. وانصرف. وعدت مع عمر إلي بيته فصلي ركعتين، ثم جلس يحاسب نفسه ويقول: ابن الخطاب؟ كنت وضيعا فرفعك الله، وكنت ضالا فهداك الله، وكنت ذليلا فأعزك الله، ثم حملك علي رقاب الناس، فجاءك رجل يستعديك فضربته، فماذا تقول لربك غدا إذا أتيته. يقول خالد محمد خالد: ماذا تقول لربك غدا.. في هذه العبارة يتمثل دين عمر ومنهاجه، وتستمد حياته معاييرها وموازينها، وفيها يتمثل جواز مروره في الدنيا، وجواز مرور الدنيا بكل طيباتها إليه.. فأمام كل لقمة شهية.. وأمام كل شربة باردة.. وأمام كل ثوب جديد تساقط دموعه.. تلك الدموع التي تركت تحت مقلتيه خطين أسودين من فرط بكائه، ويصلصل داخل نفسه هذا النذير: ماذا تقول لربك غدا. هذا هو جبار الجاهلية وعملاق الإسلام.