يواصل الشيخ الشعراوى خواطره حول الآية 229من سورة البقرة حول قوله تعالى« الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ...» يقول: فالعلم التجريبى يشقى به صاحب التجربة، إن العَالِم يكد ويتعب فى معمله وهو الذى يشقى ويضحى بوقته وبماله وبصحته ويعيش فى ذهول عن كل شيء إلا تجربته التى هو بصددها، فإذا ما انتهى إلى قضية اكتشافية فالذى يسعد باكتشافه هو المجتمع. لكن الأمر يختلف فى الأشياء النظرية؛ لأن الذى يشقى بأخطاء المقننين من البشر هو المجتمع، إلى أن يجيء مقنن يعطف على المجتمع ويعدل خطأ من سبقه. أما الحق سبحانه وتعالى فقد جاءنا بتشريع يحمى البشر من الشقاء، فالله سبحانه يتركنا فى العالم المادى التجريبى أحراراً. ادخلوا المعمل وستنتهون إلى أشياء قد تتفقون عليها، لكن إياكم واختلافات الأهواء؛ لذلك تولى الله عز وجل تشريع ما تختلف فيه الأهواء، حتى يضمن أن المجتمع لا يشقى بالخطأ من المشرعين، لفترة من الزمن إلى أن يجيء مشرع آخر ويعدل للناس ما أخطأ فيه غيره. لذلك نجد فى عالمنا المعاصر الكثير من القضايا النابعة من الهوى، ويتمسك الناس فيها بأهوائهم، ثم تضغط عليهم الأحداث ضغطا لا يستطيعون بعدها أن يضعوا رءوسهم فى الرمال، بل لابد أن يواجهوها، فإذا ما واجهوها فإنهم لا يجدون حلاً لها إلا بما شرعه الإسلام، ونجد أنهم التقوا مع تشريعات الإسلام. إن بعضاً من الكارهين للإسلام يقولون: أنتم تقولون عن دينكم: إنه جاء ليظهر على كل الأديان، مرة يقول القرآن: «هُوَ الذى أَرْسَلَ رَسُولَهُ بالهدى وَدِينِ الحق لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدين كُلِّهِ وكفى بالله شَهِيداً» «الفتح: 28». ومرة يقول القرآن: «يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُواْ نُورَ الله بِأَفْوَاهِهِمْ والله مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الكافرون هُوَ الذى أَرْسَلَ رَسُولَهُ بالهدى وَدِينِ الحق لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدين كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ المشركون» «الصف: 8-9». ويستمر هؤلاء الكارهون للإسلام فى قولهم ويضيفون: إن إسلامكم ليظهر على الدين كله حتى الآن بدليل أن هناك الملايين لم يدخلوا الإسلام؟ ونقول لهم: أو يظهر على الدين كله بأن يؤمن الناس بالإسلام جميعاً، لا، لو فطنوا على قول الله: «وَلَوْ كَرِهَ الكافرون» لعلموا أن إظهار الإسلام على الدين لابد أن يلازمه وجود كافرين كارهين، وما دام الإسلام موجوداً مع كافرين كارهين، فهو لن يظهر كدين، ولكنه يظهر عليهم أى يغلبهم كنظام يضطرون إليه ليحلوا مشكلات مجتمعاتهم الكافرة، فسيأخذون من أنظمة وقوانين الإسلام وهم كارهون، ولذلك نجدهم يستقون قوانينهم وإصلاحاتهم الاجتماعية من تعاليم الإسلام. اقرأأ يضا| خواطر الشعراوى| الخلع ولو كانوا سيأخذونه كدين لما قال الحق: «وَلَوْ كَرِهَ الكافرون» أو «وَلَوْ كَرِهَ المشركون» لأنهم عندما يعتنقونه كدين فلن يبقى كاره أو مشرك. لكن حين يقول سبحانه: «وَلَوْ كَرِهَ الكافرون» و «وَلَوْ كَرِهَ المشركون» فذلك يعني: أن اطمئنوا يا من آمنتم بمحمد صلى الله عليه وسلم وأخذتم الإسلام ديناً، إن تجارب الحياة ستأتى لتثبت لدى الجاحدين صدق دينكم، وصدق الله فى تقنينه لكم، وسيضطر الكافرون والمشركون إلى كثير من قضايا إسلامكم ليأخذوها كنظام يحلون بها مشاكلهم رغم عنادهم وإصرارهم على أن يكونوا ضد الإسلام. وضربنا على ذلك مثلاً بما حدث فى إيطاليا التى بها الفاتيكان قبلة الكاثوليك الروحية؛ فقد اضطروا لأن يشرعوا قوانين تبيح الطلاق، وحدث مثل ذلك فى إسبانيا وغيرها من الدول. انظر كيف تراجعوا فى مبادئ كانوا يعيبونها على الإسلام! لقد اضطرتهم ظروف الحياة لأن يقننوا إباحة الطلاق تقنيناً بشرياً لا بتقنين إلهي. ومثل هذه الأحداث تبين لنا مدى ثقتنا فى ديننا، وأن مشكلات البشرية فى بلاد الكفر والشرك لن يحلها إلا الإسلام، فإن لم يأخذوه كدين فسيضطرون إلى أخذه كنظام. ومن شرف الإسلام ألا يأخذوه كدين؛ لأنهم لو آمنوا به لكانت أفعالهم وقوانينهم تطبيقا للإسلام من قوم مسلمين، ولكن أن يظلوا كارهين للإسلام ثم يأخذوا من مبادئ الدين الذى يكرهونه ما يصلح مجتمعاتهم الفاسدة فذلك الفخر الأكبر للإسلام. إن هذا هو مفهوم قول الحق: «وَلَوْ كَرِهَ الكافرون» و« وَلَوْ كَرِهَ المشركون» وإذا ما جاء لك أحد فى هذه المسألة فقل: من شرف الإسلام أن يظل فى الدنيا مشرك، وأن يظل فى الدنيا هؤلاء الكفار ثم يرغمون ليحلوا مسائل مجتمعاتهم بقضايا الإسلام، والإسلام يفخر بأنه سبقهم منذ أربعة عشر قرناً إلى ما يلهثون وراءه الآن بعد مضى كل هذا الزمن.