ان القدس لم تذكر ولا مرة في القرآن الكريم, بينما جاء ذكرها عشرات المرات في التوراة انه اللؤم الذي لم يسبق له مثيل من جناة البشر, ان ينتقل نتنياهو هذه المرة الي البحث عن حق اجداده في فلسطين في القرآن الكريم وفي ضوء هذا الاستخدام الذرائعي للقرآن, لتبرير سلب فلسطين, يجوز لنا بالتأكيد ان نعتنق الرأي المعقول القائل, بأن ساعة الخطاب التوراتي قد دنت, ولعلي كنت لا اجد الجرأة الكافية للتقدم بهذا التفسير, لو لم يكن عدد لا بأس به من علماء الاثار والتاريخ الاسرائيليين انفسهم, قد زودونا بأغلب الحقائق العلمية للازمة, وهل هناك من دليل ابلغ من اعتراف المرء علي نفسه؟! ومن ابرز من جسد هذا الاعتراف او التحدي لو عز عفرون صاحب كتاب الحساب القومي الذي دحض فيه الحق التاريخي لليهود في فلسطين, وانحاز للرأي القائل, بأن مسرح الاحداث التوراتية, يمكن ان يكون في اي بقعة علي وجه الارض, الا تلك البقعة من الارض المسماة بفلسطين. ومن هذه الزاوية نقابل شلوموزاند المؤرخ الاسرائيلي والاستاذ بجامعة تل ابيب والذي وضع كتابا بعنوان متي وكيف تم اختراع الشعب اليهودي واكد فيه كذب المقولة ان هناك شعبا يهوديا, وانه هرب من بطش الرومان في عام70 م وقال: ليس هناك ولم يكن هناك ابدا شعب يهودي, بل فقط ديانة يهودية.. ويخلص زاند الي رفض كل النصوص والقصص التوراتية التي تشير الي الهوية القومية اليهودية بما في ذلك الهجرة من مصر, بالاضافة الي كل المآسي التي جرت مع غزو يوشع بن نون وقال: ان كل تلك القصص ما هو إلا أساطير. ووفقا لهذا النسق من الافكار, يذكر المؤرخ الاسرائيلي توم سيجف : أن الصهاينة كانوا في حاجة إلي خلق عرق مشترك واستمرارية تاريخية, وهو ما اسفر عن سلسلة من الاكاذيب وتستدعي هذه الحقيقة, كما يستدعي هذا الموضوع بعض التفسير, وذلك ان عراقة تاريخ فلسطين وحضارتها, قد استدعيا انتباه كتبة التوراة فتفننوا في سبيل ادخالهما في دائرة اساطيرهم, لاكثر من سبب اهمها ان يصنعوا من تلك الشراذم اليهودية شيئا يضفي الشرعية علي اغتصابهم لفلسطين واظهار قوتهم وجبروتهم, وهم يعيشون حالة القهر الناتج عن سبيهم, وتكمن الخطورة هنا, في أن الجهل بهذه القضية هو في الواقع سند تعتمد عليه منصة الدعاية الصهيونية. ولنضف امثلة اخري ولا نخشي الامثلة ففي يوليو1998 اعلن فريق من علماء الآثار الاسرائيليين بطلان العديد من الادعاءات التوراتية التي بنت عليها الصهيونية دعاواها, بل يذهب عالم الاثار الاسرائيلي نيل بيتر ليمكه الي ابعد من ذلك, اذ يري انه لا يوجد اي شيء في السجل الاثاري, يدل علي كينونة اسمها اسرائيل وان تقييم اسرائيل علي انها ظاهرة سياسية يعتمد علي التراث التوراتي, ومما يثير الانتباه, ان ليمكه يقول: ان المهمة الاكثر الحاحا بالنسبة الينا, هي الاعتراف بجهلنا, وهذه الملاحظة ذات اهمية قصوي, يتفق عليها عدد متزايد من العلماء الاثاريين الاسرائيليين ومنهم زئيف هرتسوج في مقالة له في صحيفة ها آرتس عام1999, تشبه عن قرب ما جا ءعلي لسان ليمكه وقد اثارت آنذاك دويا بين الآثاريين والمؤرخين والسياسيين, وكان عنوانها التوراة. لا اثباتات علي الارض وعنوانها يكفي, فالمعني واضح ولا يحتاج الي شرح او تكرار. ومما يثير الانتباه ايضا, ان هذا الاتجاه لم يقتصر علي علماء التاريخ والآثار والانثروبولوجيا الاسرائيليين فحسب,بل ساهم فيه بعض رجال الدين اليهود من نبلاء الضمير, ومنهم الحاخام يسرول ويس ابرز اعضاء جماعة اليهود المتحدين ضد الصهيونية والذي يؤكد: ان اسرائيل قد افسدت كل شيء, ليس علي اليهود فحسب, بل علي شعوب العالم جمعاء عبر المائة سنة الماضية, اي منذ ميلاد الحركة الصهيونية وذلك بتلفيق مفهوم او فكرة اليهودية, من ديانة روحية الي هدف قومي للاستيلاء علي فلسطين مما يتناقض مع الحقائق التاريخية والتعاليم اليهودية, ولكون اليهود منفيين بأمر من الله. ونستطيع ان نتوسع في هذه القائمة ونزيدها طولا, ولكن ما ذكرناه يكفي للدلالة علي تهافت نظرية نتنياهو حول القدس ما بين التوراة والقرآن الكريم ذلك ان علم الآثار الفلسطيني قد بات يشكل عامل فناء للحق التاريخي المزعوم لليهود في فلسطين فالتنقيبات الآثارية قد اضافت الكثير من الارباكات المعقدة لاصحاب الخطاب التوراتي فكل اثر جديد يكتشف, يعمق الهوة بين المرويات التوراتية وحقائق التاريخ. وهكذا يمكننا القول علي وجه اليقين, ان اولئك العلماء الذين استرشدنا بأقوالهم قد نجحوا بجدارة في اثارة الشكوك حول الصدقية التاريخية للمرويات التوراتية, ومن ضمنها ما تشدق به نتنياهو أخيرا لكونها تمس عصبا اساسيا من اعصاب الحركة الصهيونية التي تبذل منذ نشأتها جهودا خارقة للبرهنة علي ان كل شيء في فلسطين له اصل يهودي يردونه الي التوراة, ويحيطونه بالروايات المأخوذة منها. وهكذا يستطيع المرء ان يدرك وبسهولة بالغة, ان تصريح نتنياهو ومضامينه, انما يندرج في اطار عملية الاسقاط نتيجة لمركبات النقص التي بات يشعر اليمين الايديولوجي في الحركة الصهيونية, ذلك انهم لم يجدوا من يفرغون فيهم عقدهم غير العرب المسلمين, مستغلين تقصيرهم في بحث ماضيهم, والبؤس العلمي الذي يحيط بهم, واتكالهم علي غيرهم ليقرأوا تاريخهم ويعيدوا كتابته علي هواهم, فيما تقتضيه مصالحهم... وعلي هذا الاساس, تأتي اهمية تضافر الجهود من اجل غربلة تاريخ شرقنا العربي القديم, وتاريخ فلسطين علي وجه الخصوص, وتنقيته واعطائه صوتا معبرا, بعد ان حجبته عن الانظار مخططات توراتية صهيونية, صاغت رواية تحتفظ بالماضي لاسرائيل وحدها, بعد ان تسربت المعلومات الاثارية علي علاتها الي المؤرخين العرب عموما, وبالنقل الحرفي احيانا, كحقائق تاريخية لا سبيل الي انكارها..