ما من دولة في الأرض رويت عنها الأساطير, وكتمت حقيقتها بنشاط, أكثر من دولة إسرائيل الفلسطينية.. وكلام البروفيسور بيشلر دريكسلر هذا يشبه عن قرب قول المفكر الفلسطيني أكرم زعيتر: إن إسرائيل قد استعانت علي اغتصاب بلادنا بتزييف الحقائق, أكثر مما عنينا نحن بإيضاحها.وأعتقد ولا أظن إلا أن الكثيرين يشاطرونني هذا الاعتقاد, بأن دريكسلر وزعيتر قد اختزلا بكلامهما هذا قضية الصراع العربي الفلسطيني, التي تعد القدس والخليل آخر حلقاتها, فالجريمة التي تشهدها الخليل هي بعينها التي تقع في القدس, مع اختلاف طفيف في التفاصيل, فإذا بات خليل الله إبراهيم اليوم أسيرا, وأصبح قبره العتيد في قبضة الصهاينة, فغدا سيأتي الدور علي الحرم القدسي, ما دام العرب والمسلمون في صمتهم مستمرين, والفلسطينيون في خلافاتهم غارقين, وإذا كان الصهاينة في تبرير عملياتهم لاغتصاب فلسطين دائما بالتاريخ يلوحون, فما أحوجنا الآن أكثر من أي وقت مضي إلي إعادة كتابة تاريخ فلسطين, بحيث تتم غربلته مما علق به من شوائب, احتفظت بالماضي لإسرائيل وحدها, وإبراهيم الخليل هو موضوعنا هذه المرة, ولكي يكون رأينا صحيحا في هذا الموضوع, رأينا أن نعود إلي أطروحات الباحثين الإسرائيليين أنفسهم, فهل ثمة دليل أبلغ من اعتراف المرء علي نفسه؟ وقبل الخوض في هذا الموضوع ثمة استنتاجات يتقاسمها العديد من علماء الآثار الإسرائيليين المشهود لهم بالكفاءة, عبر عنه بإيجاز زئيف هرتسوج بقوله: بعد الجهود الجبارة في مضمار التنقيب عن إسرائيل القديمة, توصل علماء الآثار إلي نتيجة مخيفة, مفادها أنه لم يكن هناك أي شيء علي الإطلاق, وحكايات الآباء مجرد أساطير, الباحثون والمهتمون يعرفون هذه الحقائق منذ زمن, أما المجتمع فلا ووفقا لهذا النسق من الاستنتاجات, صرح كل من جار بيتي وليتشي وفلا ناجمن وهم من أكبر علماء الآثار في إسرائيل: بأن الغياب لأي سجل أثري, هو الذي يثير أخطر الشكوك حول دولة سليمان, مما يوحي بأننا بصدد ماض متخيل وكان بوعز عفرون صاحب كتاب الحساب القومي قد رفض قبل هؤلاء الادعاء القائل بأن لليهود الحق التاريخي في فلسطين. وعن الاستخدام الذرائعي للروايات التوراتية لتبرير سياسة ما يقول المؤرخ الإسرائيلي توم سيجف: إن الصهاينة كانوا في حاجة إلي خلق عرق مشترك واستمرارية تاريخية, وهو ما أسفر عن سلسلة من الاكاذيب, وما قاله سيجف يشبه شيء من قبيله فيما قاله شلوموزاند: من أن كل تلك القصص ما هي إلا أساطير غير صحيحة, تستخدم ذريعة لاقامة الدولة الإسرائيلية, وتبرر لدعوة كل يهود العالم إلي العودة إلي الأرض الموعودة... ومثل هذه الاعتبارات تقودنا إلي شيء من الإيضاح, ذلك أن القوم اختلسوا شخصية إبراهيم الخليل لينتموا إليها ويفاخروا بها, وفي الوقت نفسه ليسبغوا الشرعية علي وجودهم في فلسطين, فاخترعوا كذبا ما أسموه بالوعد الإلهي لإبراهيم وذريته من اليهود في فلسطين, ومن المثير للاستغراب أن يكون أبو الأنبياء الذي يدعيه اليهود أبا لهم, هو أول من تعرض لسهام تشويههم البدائي وعقليتهم الانحطاطية, ومن ذلك اتهامه بالمتاجرة بزوجته سارة عند ابيمالك ملك جرار جنوبفلسطين, وقد كرر نفس فعلته لدي فرعون مصر, وإن دل هذا علي شيء إنما يدل علي أن إبراهيم عليه السلام, لم يكن له أي ارتباط بالذين سمتهم التوراة ببني إسرائيل لا في الدين أو اللغة أو العرق, وقد جاء في القرآن الكريم الفصل في هذا الموضوع بقوله تعالي: يا أهل الكتاب لم تحاجون في إبراهيم, وما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده أفلا تعقلون, ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا, ولكن كان حنيفا مسلما, وما كان من المشركين, لتنقية شخصية إبراهيم مما علق بها من شوائب أخلاقية, نسبها كتبة التوراة من الكهنة إليه, وكشف دعاوي اليهود بشأن إرجاع أصلهم إلي أقدم وأقدس الشخصيات المعروفة في تلك الأزمان, بغية تأصيل ديانة مركزية موحدة في أسطورة الأب إبراهيم بما يكفل إقامة السلطة المركزية القوية, التي تغلب تحقيق الطموحات الإقليمية والأهداف السياسية العليا, علي المصالح القبلية, وما بين الاسباط من مشاحنات وحزازات, ومما نستطيع أن نخلص إليه, أن المسيرة التوراتية المتعلقة بإبراهيم, لا يمكن أن يضعها إلا ألد أعداء إبراهيم الخليل وأعداء الكنعانيين العموريين المنتمين إلي هذه الشخصية الفذة, وقد انتهت بعض أبحاث علماء الآثار أخيرا, إلي تأييد ما جاء في القرآن الكريم حول الأصل المفقود لليهود, ولو كان ما أدعوا به حقيقة تاريخية, أي أنهم ينتمون إلي إبراهيم العموري العربي لأسفر سجل آثار وتاريخ شعوب الشرق القديم عن شيء من هذا القبيل صراحة أو تأويلا, لكن شيئا من هذا لم يحدث حتي الآن, وأبلغ من ذلك في الدلالة, ما تواتر من أنباء خلال غزو العراق, من أن الصهاينة قد حرضوا وعجلوا بغزو العراق, لسبب قد خفي علي الكثيرين, وهو أنه قد تم اكتشاف نقش عموري, يحتوي علي قصة إبراهيم الحقيقية, ولو قدر له أن يري النور بعد دراسته لاستطاع أن يقلب تاريخ المنطقة رأسا علي عقب وقد تم للموساد السطو علي هذا النقش, منذ اليوم الأول للغزو. وهكذا يمكننا القول علي وجه اليقين, بأن إبراهيم الخليل كان عموريا عربيا, لم يجذبه للهجرة إلي فلسطين سوي قدسيتها التي انفردت بها في تلك الأزمنة الموغلة في القدم, ومن الثابت تاريخيا, أن الخليل من أقدم مدن العالم, وهذا ما أكدته نتائج بعثة جامعة يوتاه الأمريكية التي رأسها البروفيسور فيليب هاموند, فقد أثبتت الآثار المكتشفة فيها أن تاريخ المدينة يعود إلي أكثر من3500 سنة ق.م. ولا تخاذ الوضوح التام رائدا لنا, نجد أنفسنا منساقين للطرح التوراتي نفسه, لندلل من خلاله علي زيف الدعاوي اليهودية فيما يخص أبوة ابراهيم لليهود فإبراهيم واسحق ويعقوب ورغم تغيير اسم الجد إبرام إلي إبراهام العبراني, كانوا باعتراف كتبة العهد القديم أنفسهم في سفر التكوين, عموريين هاجروا إلي أرض كنعان, وهل بعد الاعتراف علي النفس أبلغ منه إدانة؟!.