لا أحد في مصر يعرف كيف قضي المستشار أحمد رفعت, ليلته مساء السبت الماضي, لكن المؤكد أن الرجل الذي يستحق عن جدارة واحترام لقب قاضي القرن, قد نام قرير العين مطمئن البال مرتاح الفؤاد. فقد حكم بما يمليه عليه ضمير القاضي في النهاية, حتي وإن خالف ما أصدره من أحكام, هوي الرأي العام وأشعلت الميادين غضبا. لا يستحق المستشار رفعت ذلك الهجوم الكاسح الذي تعرض له علي مدار الأيام الماضية, والذي بلغ حد التجريح في شخصه, والمزايدات الانتخابية الرخيصة علي دماء الشهداء, فالرجل في النهاية لم يحكم إلا بما كان تحت يديه من أوراق, وبما قدمته له النيابة العامة من حيثيات في قرار الإحالة, وجهات البحث الجنائي من أدلة, تثبت ما وجهته النيابة إلي الستة الكبار في وزارة العادلي من اتهامات, وقد حكم الرجل بما يحتمه عليه موقعه كرئيس ل محكمة جنائية, وقضي بما ارتاح إليه ضميره واطمأن إليه فؤاده كقاض. ربما تكفي تلك المقدمة السياسية البليغة, التي ألقاها المستشار رفعت في مستهل جلسة الحكم, للدلالة علي موقفه السياسي من الثورة, فقد بدت أشبه ما تكون بوثيقة إدانة لنظام مبارك وزمانه, وعكست في الوقت ذاته ما واجهته هيئة المحكمة من حيرة علي مدار نحو عشرة أشهر, عندما وجدت نفسها أمام قرار إحالة لم يتضمن ضبط أي من الفاعلين الأصليين, من مرتكبي جرائم القتل العمد التي تعرض لها الثوار, فيما أوراق التداعي وما قدم فيها من مضبوطات, لم تتضمن ما يمكن أن تطمئن إليها المحكمة من أدلة فنية أو تسند إليها. المؤكد أن موجات الغضب التي انفجرت في أعقاب صدور الحكم, قد لعبت دورا, ربما دونما قصد في التعمية علي تلك الرسائل التي وجهها المستشار رفعت في حيثيات حكمه إلي الرأي العام, الذي كان يعرف عن يقين مدي ما سوف يسببه له هذا الحكم من صدمة, وهي في حقيقتها رسائل شديدة الوضوح, عندما أكد الرجل خلو أوراق الدعوي ومستنداتها من أي تسجيلات أو أوراق أو اتصالات قد تعتمد عليها المحكمة, حتي دفاتر الأمن المركزي التي قدمتها النيابة كدليل اتهام علي خروج السلاح وتقارير الطب الشرعي, خلت هي الأخري من أي دليل يثبت أن مئات الشهداء الذين سقطوا في ميادين الثورة, قتلوا غيلة بسلاح ناري. لقد أراد الرجل أن يقول علي نحو مباشر لا يقبل اللبس, أن الاجهزة التي كان يتعين عليها أن تساعد النيابة في جمع هذه الأدلة, وفي مقدمتها جهاز الشرطة نفسه, قد تقاعست عن أداء دورها, وأن النظام الذي قبع رئيسه ونجلاه ووزير داخليته خلف قفص الاتهام, لايزال حاضرا وبقوة في العديد من مفاصل الدولة لم يسقط بعد, ومن ثم فإنه ما كان عليه سوي أن يقضي فيما هو تحت يديه من أوراق, لم ترق إلي حد الدليل ولا تقيم اتهاما. ربما يكفي أن يسأل هؤلاء الذين كالوا الاتهامات للمستشار رفعت أنفسهم سؤالا واحدا, حتي يعرف الجميع من هو المسئول عن تلك المهزلة التي جرت: القاضي الذي ألقت به الأقدار قبل نحو عام من انتهاء علاقته بمنصة القضاء لبلوغه السن القانونية, ليفصل في واحدة من أهم وأخطر القضايا التي شهدتها مصر علي مدار تاريخها الحديث, أم هؤلاء الذين حجبوا المعلومات وطمسوا الأدلة عن عمد حتي يفلت الجناة من العقاب؟. المحاكمة السياسية هي الحل. [email protected]