ما زلنا علي العهد مع القراء بإلقاء الضوء بين الحين والآخر علي شخصيات قدمت لهذا الوطن رحيق عمرها امتنانا وانتماء, و لم تنل من مفردات الأضواء ما تستحق ربما لكونها تنتمي لأشرف ميادين العمل وهو العلم. وحديثنا اليوم عن أستاذ للآثار المصرية جمع في دراسته بين حضارتي شطري وادي النيل أي مصر والسودان, فجاء عطاؤه يحمل عبق النهر الخالد بين جنبات الوادي التليد. إنه الدكتور محمد إبراهيم بكر أحد رواد التدريس بجامعة القاهرة فرع الخرطوم حيث قدم العديد من الدراسات عن الحضارة المروية وكذا كتابا عن النوبة لا يزال مرجعا أساسيا لكل الباحثين. الأمر الذي جعل شهرته تطبق الآفاق الدولية كأحد أساطين الدراسات النوبية وعلاقتها بالحضارة المصرية القديمة, إذ ساعدته دراسته في ألمانيا في الستينيات من القرن الماضي علي فتح مجالات مشتركة بين مصر والعالم الخارجي في هذا المجال. وعندما انتقل إلي جامعة الزقازيق أستاذا وعميدا لكلية الآداب بها لم تستوقفه الإداريات عن أخذ المبادرة, كأول عالم يخوض مجال الحفائر الأثرية باسم جامعة الزقازيق ليضعها علي خريطة هذا العلم بين مصاف الجامعات التي تجمع بين النظرية والتطبيق. لذا جاءت مكتشفاته في صان الحجر( تانيس) لتلفت نظر الاثريين الدوليين, لكونها إحدي عواصم مصر الفرعونية ذات المجد التليد والحضور الدولي في وقت فيه شهد العالم القديم متغيرات متباينة علي مستوي توازن القوي. ولقد كان اختيار الدكتور بكر لرئاسة هيئة الآثار اختيارا موفقا في مرحلة من أزهي مراحل الإنجاز الأثري في مصر, حيث انتشرت البعثات المحلية و الدولية في ربوع مصر تستجلي مفردات تاريخ ما تزال آثاره المدفونة في أرضنا الطيبة تحمل أسرارا تشي بقيمة الإنسان المصري وعطائه الحضاري. ولعل نجاحات هيئة الآثار المصرية علي المستويين الإقليمي والدولي إبان رئاسة الدكتور بكر كان بمثابة أهم مفردات قوة مصر الناعمة عربيا وإفريقيا ودوليا. ولا يمكن أن ينسي إلا جاحد تلك الطفرة المتميزة التي شهدتها جامعة الزقازيق علي يديه بتأسيسه لمعهد حضارات الشرق الأدني القديم, الذي لا يوجد له نظير بالجامعات المصرية والذي يمكن أن تمثل بعض دراساته مرتكزا لأمن البوابة الشرقية القومي. ونظرا لعطاء الدكتور بكر المتميز في حقل الدراسات الأثرية, فقد جاء عمله كأستاذ زائر بالجامعات العربية والأجنبية عترافا بفضل لم يزايله حتي هذه اللحظة, أمد الله في عمره. بل وكان ستقدامه للعديد من الشخصيات العلمية العربية و الدولية للمحاضرة بجامعته ترجمة عملية لتقدير مكانته. كما حظيت أعمال الحفائر بموقع تانيس بالنشر الدولي الذي تستحقه, نظرا لقيمة المكان الأثرية وقامة الدكتور بكر العلمية. أما علي مستوي العطاء الأكاديمي فيكفينا القول أن سيادته كان ولايزال أحد العناصر العلمية المؤثرة في لجان الترقيات ومنح الدرجات العلمية لما يربو عن أربعة عقود, حيث يمثل ووجوده فيها حضورا متميزا لجيل الرواد و تواصله مع أجيال المختصين ممن كانوا بالأمس القريب تلاميذ لسيادته وأصبحوا بفضل التواصل العلمي مع جيل الدكتور بكر زملاء الحاضر وأمل المستقبل. وعلي المستوي الإنساني فإن كل من يعرف الدكتور محمد إبراهيم بكر يدرك كيف أن سيادته يمثل نموذجا للسهل الممتنع الذي يأسر من حوله بأدبه الجم, وترفعه عن الصغائر بصمت كان ولا يزال أبلغ من الكلام. (إشراقات السعدي137): أصحاب المبادئ لايدفعون ثمن مواقفهم كما يظن البعض, بل ينعمون في الواقع بعائدها.