ما زلت علي عهدي مع القراء الكرام أو بالأحري عهدهم بي المتمثل في إلقاء الضوء من حين لآخر علي نماذج من حقل الراسخين في العلم ذوي النزعة الإنسانية التي تمثل واحدا من نماذج المثل العليا, وهي أحوج ما نحتاجه الآن حتي تعتدل منظومة القيم ولا ينال من قواعد بنيانها. وحديثنا اليوم عن عالم جليل قدم لوطنه من جلائل الأعمال ما يستحق معه وقفة, وهو عالم الآثار المصرية الدكتور علي رضوان. وأحسب أنه من الرواد القلائل علي تعاقب الأجيال الذي قدم رؤية متكاملة في مجاله ليس فقط في محيط الأبحاث العلمية التي هي صلب اختصاصه ولكن في طرحه لمفهوم التكامل الأثري أفقيا ورأسيا مما يفسر اهتمامه بعصور ما قبل التاريخ علي مستوي الحضارة المصرية وقريناتها من حضارات العالم القديم. والدكتور رضوان من القلائل الذين ضربوا مثلا في التوازن بين العمل العلمي والإداري إذ يحسب له تلك المواسم المتعاقبة من الحفائر الأثرية في واحد من أهم مواقع الحضارة المصرية القديمة في أبو صير, التي اتخذها فراعنة الأسرة الخامسة مستقرا لهم مبتعدين بحكمهم الجديد ومعتقدهم المتميز عن المستقر الرئيسي للدولة المصرية آنذاك. ومن ثم كان اختيار الموقع علامة مميزة في سلسلة نجاحات الدكتور رضوان, حيث نافحت نتائجه حفائر البعثة التشيكية التي لا تزال تعمل بالمنطقة- فيما أعلم- والتي تتخذ من جهد الدكتور رضوان منطلقا من منطلقات عملها, حسبما شهد بذلك أحد أعضائها في محاضرة كان لي شرف حضورها. ولم يركن عالمنا الجليل لما حققه في مسيرته العلمية وهو ليس بالقليل, حيث من الصعب أن تجد دورية أو مرجعا أو موسوعة من المنشورات العلمية الدولية في مجال التخصص وقد خلت من إسهامه باحثا أو محكما أو مستشارا للتحرير. ومن ثم كان الإنجاز القومي المتمثل في اتحاد الأثريين العرب الذي جعل من الجمع السنوي لهم سواء في بر المحروسة أو في العواصم العربية المختلفة بمثابة عيد علمي يتشح برونق الجلال واللحمة العربية المتأنقة في أبهي صورها. ولعل ما حققه الإتحاد من نجاحات علمية وأدبية برئاسة أستاذ الأجيال كان كفيلا باستحقاق تلك المنحة الكريمة من الشيخ القاسمي حاكم الشارقة, بإهداء مقر دائم للإتحاد يجمع شمل الأثريين بقيادة الدكتور رضوان والكوكبة المتميزة من الأثريين العرب. وقد جاء حصول الدكتور رضوان علي جوائز الدولة بأنواعها المختلفة بمثابة التتويج المستحق والمتزامن مع إنجازات كل مرحلة حياتية له, حتي كانت جائزة مبارك( سابقا, النيل حاليا) في العلوم الإجتماعية أعلي تكريم علمي من الدولة لابن من أبنائها استحق تقديرياتها ومن قبلها التشجيعية علي إنتاج من أجل ما كتب في مجال التخصص بغير العربية. وعلي الرغم من التمكن اللغوي الأجنبي إلا ان حديث العربية لدي الدكتور رضوان يمنحك حالة من المتعة الذهنية والتأنق الفكري الذي يتفق وطبيعة شخصيته شديدة الرقي علي المستوي الإنساني. إن ما نكتبه اليوم عن عالم مصري بقيمة وقامة الدكتور علي رضوان ليؤكد علي أحد أهم الدروس العملية التي قدمها للأجيال من بعده, وهو تواكب التمكن العلمي مع الطرح الثقافي العام حتي لا تظل الإنجازات العلمية بمعزل عن المنظومة الثقافية. وأحسب أن هذا المبدأ الراسخ في مسيرة الدكتور رضوان ليعكس حالة فريدة من إنسانية عالم و عالمية إنسان سوف يبقي- أطال الله في عمره- نموذجا مشرفا لتمثل الأجيال. إشراقات السعدي80: المتميز الحقيقي ليس من يظهر قدراته في مجتمع التردي..بل من يبرز مواهبه في مجتمع التحدي. أستاذ الحضارة المصرية القديمة كلية الآداب جامعة الإسكندرية