هو أستاذ الأساتذة وعاشق الحضارة وأبو التراث.. ذلك بعض من الألقاب التى كان يلقب بها الراحل الدكتور عبد الحليم نور الدين عالم الآثار، الذى فقدته مصر فى شهر نوفمبر الماضى عن عمر يناهز 73 عاما أمضاها فى خدمة العمل الأثرى دارسا وباحثا ومدققا ومكتشفا ومؤلفا لأكثر من 20 كتابا فى الآثار والتاريخ والحضارة والسياحة ومشرفا على أكثر من 350 رسالة علمية، فاستحق عن جدارة أن يكون من أهم العلماء المصريين المؤسسين لعلم المصريات وتاريخ وحضارة مصر والشرق الأدنى القديم. وعقب وفاته شهد عبد الحليم نور الدين وهو الرمز الحضارى الكبير مظاهر احتفاء فى عدة محافل منها جامعة الفيوم واتحاد الآثريين المصريين و الآثريين العرب. وفى حفل تأبين المجلس الأعلى للآثار، بحضور وزير الآثار الدكتور خالد العنانى والوزيرين السابقين الدكتور محمد إبراهيم والدكتور ممدوح الدماطى، بمشاركة زملائه وتلاميذه ومحبيه من مصر والدول العربية والأجنبية كان الإجماع من الحضور على أن مصر فقدت هرما من آثارها فى علم المصريات ورائدا من رواد الجيل الثانى فى هذا العلم بعد الدكاترة سليم حسن وأحمد كمال باشا وأحمد فخرى وعبد المنعم أبو بكر. يقول الدكتور محمد حمزة الحداد أستاذ الآثار الإسلامية بجامعة القاهرة إن الراحل كان موسوعة متحركة فى علوم الحضارة المصرية، وإن إسهاماته وأعماله العلمية ستظل خالدة وستبقى معينا لكل باحث ودارس ومهتم، فليس هناك من لا يرجع إلى مؤلفاته التى لم تكن مجلدات فقط، بل هى «مخلدات»، حيث ترك لنا آثارا وكنوزا فى شكل كتب ومجلدات. ويصف الدكتور عاطف منصور عميد كلية الآثار جامعة الفيوم الدكتور الراحل عبد الحليم نور الدين بأنه «أستاذ الأساتذة فى علم المصريات الذى تتلمذ على يديه أساتذة الآثار حاليا فى مصر والعالم العربى». كذلك وصفه العديدون فى كلية الآثار وكلية السياحة والفنادق، ومنهم على سبيل المثال لا الحصر الدكاترة فايزة هيكل وعلا أمين وضحى مصطفى الذين أجمعوا بأنهم على مدى أكثر من نصف قرن من المعرفة والزمالة كان لا يبخل على أحد فى النصيحة والعلم، وكان نعم الأخ والزميل والأستاذ، فقد كان مجددا متجددا لا تقليديا، حيث كان دائم الاطلاع على أقدم وأحدث الأبحاث فى علم الآثار، وكان من أهم من عملوا على توثيق المومياوات والكشف عنها بالأشعة المقطعية، وكان يرى أن التحنيط يحتاج دائما للأخذ بالأساليب والطرق العلمية الحديثة. «إنه التلميذ الذى غير هدفه منذ كان فى المرحلة الابتدائية» كما يقول عنه نجله أحمد عبد الحليم، فقد كان يعشق الآثار المصرية أكثر من أى شىء ولا يشغله شىء سواها، وفى أثناء دراسته كانت رغبته وهدفه دخول كلية الطب، ولكن تغير الهدف خلال رحلة مدرسية شارك فيها لزيارة المتحف المصرى غيرت مسار حياته، حيث تعلق بالآثار والتحق بكلية الآداب جامعة القاهرة ليدرس الآثار وكان منها بداية مشواره العلمى. وقد ولد الدكتور عبد الحليم نور الدين فى الأول من يوليو 1943 بقرية الرملة فى بنها بمحافظة القليوبية وحصل على الليسانس فى الآثار من كلية الآداب جامعة القاهرة عام 1963 ودرجة الماجستير من الجامعة نفسها وعلى درجة الدكتوراه من جامعة ليدن بهولندا عام 1974. ومن مؤلفاته: تاريخ وحضارة مصر القديمة والديانة المصرية القديمة واللغة المصرية القديمة وتاريخ وآثار النوبة ودور المرأة فى المجتمع المصرى القديم ومواقع ومتاحف الآثار فى مصر و الوطن العربى وكفاح شعب مصر ضد الهكسوس. وتقديرا لعطائه العلمى حصل على العديد من الجوائز والأوسمة منها وسام الاستحقاق بدرجة ضابط من فرنسا، ووسام الاستحقاق بدرجة قائد من إيطاليا عام 2000، وجائزة الدولة التقديرية فى العلوم الاجتماعية 2002، وميدالية جامعة ليدن بهولندا، وميدالية جامعة وارسو ببولندا 2007، ووسام الشرف من متحف «ماتيز» بألمانيا 2002، والميدالية الذهبية للوحدة اليمنية 2005، والميدالية الذهبية لصنعاء عاصمة الثقافة العربية 2004، وجائزة جامعة القاهرة التقديرية عام 1998، وجائزة التميز العلمى من جامعة القاهرة 2007. وقد حظيت أنا كاتب هذه السطور بشرف التعامل مع الراحل عن قرب، عندما تولى رئاسة لجنة إعادة كتابة تاريخ النوبة وذلك عام 2013، ووجدته إنسانا يتميز، إلى جانب علمه الغزير، بدماثة الخلق وحسن المعاملة مع جميع من حوله، وكان يسعى لتحقيق هدف نبيل وهو أن تصل معلوماته للجميع.. ومن بين ما صرح به فى لقاءات جمعتنا: أن لجنة إعادة كتابة تاريخ النوبة ستوضح للأجيال القادمة من خلال المناهج الدراسية ابتداء من المرحلة الابتدائية إلى التعليم الجامعى المعلومات الصحيحة حول التاريخ النوبى، وتصحيح بعض من المعلومات الخاطئة التى ذكرت فى بعض المناهج حول النوبيين. فى مجال الأعمال الميدانية والمسح الأثرى والحفائر الأثرية كشف عن العديد من المومياوات اليمنية القديمة فى مقابر صخرية بمنطقة «شبام الغراس» بجنوب شرق صنعاء وأجرى دراسات ميدانية ومسحا أثريا لبعض المواقع الأثرية القديمة فى اليمن مع الإسهام فى إعداد وتطوير المتاحف هناك، وترأس بعثة الحفائر المشتركة بين جامعة القاهرة وجامعة ميونيخ الألمانية فى منطقة تونة الجبل فى مصر الوسطى. كان عبد الحليم نور الدين محافظا ومدافعا شرسا عن مصر وآثارها فى كل المحافل المحلية والدولية، وواجه العديد من مزاعم اليهود والإسرائيليين عن أنهم كان لهم دور فى الحضارة المصرية، حيث فند كل مزاعمهم بأدلة حقيقية أثبتت زيف ما كانوا يتحدثون عنه، وبرأ ساحة الحضارة المصرية من أى تدخل فيها من جانب العبرانيين. وكتب نور الدين عشرات المقالات عن قضايا الآثار فى الصحف المصرية والعربية والعالمية وأسهم بشكل كبير فى نشر الوعى الأثرى بين جموع المصريين من خلال كتاباته ومحاضراته وحواراته وأحاديثه الصحفية والإذاعية والتليفزيونية فى الداخل والخارج. ومما قيل عنه: إنه عالم الآثار الذى فسر معنى الآثار لغير المتخصصين، فمن يقرأ كتبه الموجودة بكثرة فى المكتبات فى هذا العلم يستطيع بسهولة فهم ما يقول.. وهى ميزة تفضله عن كثير من الأكاديميين وكان يدرك ما يقوله للقارئ لتصبح أعماله تهم الجميع، وكان يردد ويقول دائما «فلتبق الآثار فى باطن الأرض.. التراب أحن عليها من يدينا». بتلك الكلمات عبر نور الدين بأسى عن الإهمال الذى تعانيه الآثار، مؤكدا أنه قبل أن نبحث عن اكتشافات جديدة علينا أن نرمم ونحافظ على ما لدينا بالفعل من آثار.