كانت فلسفة عمر بن عبدالعزيز هي المساواة في الحقوق بين الناس في حدود الاحتياجات والضرورات والإمكانات, لا فرق في ذلك بين عربي ومولي, مسلم أو غير مسلم, حاكم أو محكوم, فالأمة هي الأصل, والعدل هو الغاية.. فعندما يأخذ الظلم والاستبداد برقاب الناس تشتعل الثورات, والدول لا تنهار من قلة المال, فكل العروش التي احتضرت قد خلفت وراءها من الكنوز والبذخ والثراء ما افتقرت لعشر معشارة الدول الشابة التي قامت علي أنقاضها. ولقد انهارت الدولة الأموية تحت مطارق الثورات( هاشمية خوارج معتزلة) هذه الثورات هي التي خمدت واستكانت في عصر عمر بن عبدالعزيز, ولكن بموته اشتعلت من جديد, ففي عهد بن عبدالعزيز التقطت الدولة أنفاسها وأنجزت ما أنجزت من إصلاحات, اختفي خلالها الفقر, وانخفضت الأسعار وبدلا من أثقال الناس بالضرائب والمكوس, بدأت الدولة تعطي وتمنح وتمد خدماتها حتي إذا ما شبع الناس أكلت الطيور والحيوانات في الصحاري.. وعمر بن عبدالعزيز يكتب إلي واليه علي العراق عبدالحميد بن عبدالرحمن, يطلب منه أن يخرج إلي الناس أعطياتهم.. فيجيبه الوالي: اني قد أخرجت للناس أعطياتهم, وقد بقي الكثير في بيت المال فيكتب إليه عمر طالبا منه أن ينهض بسداد ديون المدينين, الذين استدانوا في غير سفه ولا إسراف, سداد ديونهم من بيت المال, فينهض الوالي بذلك ويكتب لعمر ثانية: إن بيت المال لازال عامرا.. فيطلب إليه الخليفة أن يزوج من ليس له مال ظاهر من بيت المال! فينفذ الوالي, ويكتب لعمر مرة أخري: اني قد زوجت كل من وجدت, وقد بقي في بيت مال المسلمين مال فيكتب إليه الخليفة: انظر من كانت عليه جزية فضعف من أرضه, فأسلفه ما يقوي به علي عمل أرضه, فان لا نريدهم لعام ولا لعامين. وبهذا يكون عمر بن عبدالعزيز أول من قال بصرف السلف الإنتاجية لإعانة الفلاحين علي استغلال الأرض, لأن الدولة تخطط للمستقبل البعيد. وقال بعض المستشرقين كذبا: ان سياسة عمر بن عبدالعزيز كانت أبعد أثرا في وهن العرش الأموي من سياسة الحجاج بن يوسف وسوء إدارته. لكن تؤكد مصادر التاريخ أن اخراج العراق كان علي عهد عمر أعظم منه علي عهد الحجاج, ويرجع المؤرخون هذه الزيادة إلي عدل عمر وعمارته. ولا يغيب عنا دور السلام الاجتماعي الذي انتشر خلال فترة حكم عمر في زيادة النماء المالي بالعراق وغيره, فلقد كانت الثورات المستمرة تضعف من طاقة البلاد الاقتصادية. وعدل عمر لم يضعف الدولة كما قال المستشرقون ولم ينقص ماليتها, بل لقد ضعفت دولة العسف والجور بل زالت ونقصت الأموال المغتصبة, بل انتزعت من مغتصبيها.. ولكن الروح قد عادت إلي دولة العدل, والأموال قد جرت بين العاملين المنتجين, عربا كانوا أم من الموالي, مسلمين كانوا أو غير مسلمين.. وهذا حوار دار بين عمر بن عبدالعزيز وبين عامل من عماله علي الخراج يجسد هذا المعني: دخل العامل علي عمر فسأله: كم جمعت من الصدقة؟ أجابه بمبلغ حدده.. وسأله عمر: فكم جمع الذي قبلك؟ أجابه العامل: بمبلغ أكبر مما جمعه هو!! فسأله عمر: من أين ذاك؟ يقصد من أين الزيادة؟ أجابه العامل: يا أمير المؤمنين, إنه كان يأخذ من الفرس دينارا, ومن الخادم دينارا, ومن القدات خمسة دراهم, وإنك ألغيت ذلك كله( أي الغيت خراج أهل الذمة والخدم والفقراء). فقال عمر: لا, والله, ما ألغيته, ولكن الله ألغاه.. فقد نقصت المظالم, وضاعت أعيانها.. ولكن العدل, هو الآخر, كانت له ثمار أعظم وأكثر منها! وزادت الأموال وعم الخير, ففرضت الدولة للناس العطاء, وأدخلت الإصلاحات وتساوي العرب والموالي في الرزق والكسوة والمعونة والعطاء, فأعاد عمر عطاء أبناء المقاتلين وذريتهم الذي فرضه لهم عمر بن الخطاب ومنعه معاوية وخلفائه الأمويون.. وفرضت الدولة قروضا للمرضي بأمراض مزمنة تعجزهم عن العمل, ولقد اراد بعض الولاة ومنهم صاحب ديوان دمشق أن ينفق عليهم صدقة, دون أن يحدد لهم في بيت المال حقوقا واجبة ومقررة, فشكوه إلي عمر بن عبدالعزيز, فكتب إليه أن يفرض لهم حقوقا واجبة, لا مجرد صدقات وإحسانات وقال له: إذا أتاك كتابي هذا فلا تعنت الناس ولا تعسرهم ولا تشق عليهم فاني لا أحب ذلك. وامتدت خدمات الدولة لكل الأمصار, بما ييسر علي الناس أمور حياتهم فكتب عمر إلي عماله وولاته في الاقاليم أن يقيموا الخانات( النزل والفنادق) لنزول المسافرين يقدم فيها الطعام, ويتعهدون للمسافر بما صحبته من دواب وإذا مرض المسافر يطيب, وأما ابناء السبيل لمن لا أهل لهم تتم أعاشته بالمعونة التي تعينه علي الوصول للبلد الذي يريد. ونظر عمر لمن تثقل كاهلهم الأمانات ولا يستطيعون الوفاء بها, ولمن رغب في الزواج ولا قدرة له علي دفع الصداق فجعل لهؤلاء حقا مقررا في بيت المال.. وكان هناك بعض الأسري محتجزين لدي الروم ففرضت الدولة لهم عطاءات تزيد علي انصبتهم كما لو كانوا أحرارا تعطي لذويهم, وخصص لهم نفقات تكفي الضرورة لهم حتي لا يطمع فيها الروم فيحجزوها عنهم. وكتب إليهم كتابا يطمئنهم وأرسل من يفاوض ملك الروم علي إطلاق سراحهم ويفديهم عربا وموالي وخدما. وجعل عمر العطايا للفقراء لا للأنصار ولا الأعوان ولا أهل العصبية والمرائين ولا للشعراء والمادحين.