كلما هل علينا شهر أكتوبر نستشعر أن روحا جديدة تبعث في وجدان الوطن لبضع ساعات أو أيام تبث في أوصاله حماسة ذكري وفي أجوائه عبق النصر. وتشنف آذاننا ببعض الأهازيج التي ارتبطت بالمناسبة أو بعض الذكريات التي يعيدها للذاكرة أبطال المشهد الباقون علي قيد الحياة, فضلا عن جلسة مجلس الشعب التاريخية التي جعلت من السادات رمزا خالدا للحرب والسلام. إنها نسيج لرداء حفظ للوطن كرامته شغلت خيوطه بتضحيات أبنائه من المدنيين والعسكريين علي حد سواء. بيد أن الأمر في كل عام لا يبدأ حتي ينتهي بمفردات للاحتفالية وكأنها مناسبة وقتية أو عيدا سنويا نؤدي به واجبا مفروضا أو طقسا للوطنية بعدما نستطلع هلاله, ليلقي الواحد منا التحية علي من بجواره بالقول( وطنا) علي غرار( حرما) المعتادة بين الكثيرين بعد كل صلاة. ولعل هذا الأسلوب علي قيمته وبهائه إلا أنه يفتقد تأثيره بزوال مظاهره. ولكم نادينا في كل مناسبة أن أكتوبر لم تكن حدثا عابرا في حياة شعب صيغ من المحن وعركته النوازل ليشتد عوده في عمر الإنسانية المتزنة بلا نزق طفولة ولا وهن شيخوخة, بل كان و سيظل رافدا أصيلا للوطنية والaعطاء الذي يمكن تمثيله في شتي مناحي حياتنا. حتي أنني أستشعر أن أية إنجاز يقوم به أبناء الوطن إنما هو ثمرة غير مباشرة من ثمار أكتوبر, مما جعلني أفضل أن يكون هلاله مستدام الرؤية دون أن يغم علينا يوما, لذا كان التساؤل والأمر كذلك; فلم نجد التراخي وسوء الخلق وعدم الاكتراث وغيرها من الموبقات ما تزال تعشش في حياتنا و تكدر صفوها؟ ولم ما يزال الركود يتحكم في بعض جنبات حياتنا معيقا كل انطلاق ومجهضا لكل فكر متقد.. ليصبح التغيير حلما عزيز المنال ومطمحا لا رجاء فيه.. ويبقي الإحباط سنة حياتية لدي الكثيرين يعبرون عنها بصمت أبلغ من الكلام وبانسحاب سوداوي النزعة أو بموات لا حراك فيه.. وكأننا لم نكن يوما من قهر المستحيل وعبر اليأس في أقسي مراحله إختبارا ومواجهة. ومن ثم فانني أدعو من منبري هذا كل مؤسسة أن تتقدم بالفعل بمشروع كامل للتطوير والإجادة لا يستند علي الأداء الورقي بل يضع في اعتباره العنصر البشري الذي بات يحتاج منا إلي وقفة جادة لصقل النافع منه وإعادة النظر فيمن سواه, إذ كل ميسر لما خلق له. علي أن تكون الوقفة جادة بالفعل.. فالأمم لا تنهض بالأماني أو الأهازيج ولا تتقدم بالاقدميات البالية والقرارات المتكلسة والعقليات المتحجرة.. أما عن القواعد البيروقراطية الحاكمة والتي لا نكاد نطرق مجالا إلا ونجد سيفها المسلط و قد بتر منا أطراف الحركة, فعلينا بحق أن نبدأ بها بالتوازي مع صياغة العنصر البشري المنتظرة, فنعمل نحن فيها سيف المنطق و العدل والتيسير حتي نسد منها الأنفاق ونغلق فيها الدهاليز.. لكونها الأب الشرعي للفساد المستدام.. ألا هل بلغت في أكتوبر.. فاللهم فاشهد حتي قيام الساعة. (إشراقات السعدي73): أكتوبر هذا العام ليس مجرد ذكري وطنية نسترجعها أو مناسبة قومية نستدعيها, إنه احتفاء بإعادة صياغة شعب باستنهاض كوامنه وحسن توظيف قدراته واستثمار إمكاناته.. إنه في المجمل عيد للمصرية في ثوبها الجديد. أستاذ الحضارة المصرية بكلية الآداب ومدير التعليم الدولي بجامعة الإسكندرية