في مثل هذه الأيام من كل عام تطل علي مصرنا ذكري العبور للنصر أو بالأحري ذكري هجر اليأس, بيد أن هذا العام لم يكن أكتوبر ككل عام. فقد اعتدنا من قبل أن تمر الذكري بعدد من المفردات المكررة التي مللناها بل واستشعرنا معها ثمة إجهاض الفرحة بالتغييب تارة أو بالتجاهل أخري, ولو أحسن هؤلاء النية لجعلوا من حياتنا كلها أكتوبر ولكن الغرض مرض كما يقولون أحيانا. بيد أنه خلال العامين الماضيين من عمر ثورة الشعب خيمت علي ذكري أكتوبر حالة من الترقب والتوجس ما بين التحسب في إزكاء المشاعر تجاهها وبين الأمل في توجيه تلك المشاعر وجهة أخري, رغبة في سحب بساط الذكري أو اختزال مساحته لحساب ذكريات وطنية جديدة لم تكن لتستقر في وجدان الأمة لسبب بسيط أن صانعها لم يلق بالا لتلك الأمة أصلا. وعندما جاء أكتوبر هذا العام استشعر الجميع وكأنه قد استعيد من دهاليز التاريخ في ثوب قشيب ليؤكدوا به أن الأصالة أبدا لا تندثر معالمها وأن ذاكرة الأمة تستعصي علي( الزهايمر) القومي, فكان الخروج الجماعي للحشود التي استعذبت فكرة أن تكون ثورتا يناير ويونيو ابنتين شرعيتين لأكتوبر المجيد. بيد أنه إذا ما خلصنا من المشاعر الفياضة علي رقيها واستدعاء الذكريات علي متعتها تبقي قضية مهمة تتمحور حول إجابتها لسؤال, وماذا بعد؟؟!. ذلك أن الاستكانة بقبول تقليدية التناول واستمراريتها قد تعيد إفراغ الحدث من مضمونه, ومن ثم فعلينا أن نجعل من هذه الذكري عبورا مستداما بإعلاء قيم المقارنة والتجويد والتقدم الحقيقي المستند علي البناء القيمي والموروث الأخلاقي والوجدان العقيدي والانتماء الفطري للوطن. هذا العبور يستلزم من اليوم مراجعة لأربعين عاما من عمر أكتوبر حيث سنجد أن قصر النفس وضيق الصدر قد جعلنا ننكص علي أعقابنا, فبدلا من تكريس التنظيم اتسعت رقعة العشوائيات علي المستويين المكاني والعملي حتي أصبحت سمة من سمات حياتنا ومن ثم وجب علينا التصدي بالحق والقوة لهذه الظاهرة التي لا تليق بوطن ضرب مثلا للعالم في أكتوبر بقيمة الإرادة وحسن الإدارة. ومن بين مراجعات أكتوبر الملحة علينا هي أن نستلهم بحق قيمة الرمز في حياتنا فالشعوب تتطلع دائما لفكرة البطولة لكونها غريزية المنشأ, وهي في شقها الإيجابي لا تمثل تفويضا مطلقا لشخص للتصرف في أقدار وطن بل هي ثقة في قدرته علي العبور بالوطن إلي حيث يراد له لا إلي حيث يريد هو. وقد ضربت أكتوبر أروع النماذج علي جميع المستويات العسكرية والرسمية والشعبية حتي ليخال لنا أنها منحت المجتمع( مخزونا) للرمز!! كان يمكن استثماره لاستنهاض المهمة الوطنية في شتي المجالات, ليس فقط علي مستوي الأشخاص بل علي مستوي المبدأ حيث التمحور المؤسسي هو الأبقي والأدوم وليس التمحور الذاتي حول رأس المؤسسة التي غالبا ما تقدم نموذجا ما أحوجنا للخلاص منه وهو المجيء ديموقراطيا ثم الإدارة ديكتاتوريا. أما إحدي أهم المراجعات في ذكري أكتوبر فتلك المرتبطة بقضية الانتماء التي كانت الهوة المتسعة دوما بين الواقع والمأمول سببا في حالة الإحباط الجمعي التي درج عليها المجتمع بعدما أصبحت الولاءات الأمنية والحزبية بابا ملكيا للعبور النخبوي في المجتمع, لتتقلص في المقابل قيم الإبداع والعطاء القائمة علي الخبرة والتمكن الفعلي أمام مفهوم أهل الثقة الذي ما يزال يعكر صفو المجتمع وجدانيا ويعيق تقدمه الإيجابي داخليا وخارجيا. ولقد تعدت القضية خلال العهد المباركي مرحلة أهل الثقة وأهل الخبرة الشهيرة إلي مأساة التنصل من الهوية المصرية لدي قطاع كبير من الشباب لحساب زيجات مدبرة مع( بنات العم) لإيجاد جيل شائه الهوية والانتماء, أو بالتخلص من جوازات السفر عنوان هويته أملا في توجه جديد ينفي عنه مصريته وكأنها رجس من عمل الشيطان. هذا الوضع الذي نلمس الآن تهافته مقابل تنامي الحس الوطني علينا استثماره بتوظيف الطاقات الفعلية لأبناء الوطن من خبراء مجالاتهم وتعظيم قيم العمل والإبداع ماديا وأدبيا لا سيما ونحن أحوج ما نكون الآن لرؤي ثورية تبعد عن تقليدية التناول أو عبثية التنفيذ أو عشوائية النتائج. أما آخر هذه المراجعات عرضا وأكثرها أولوية ورصدا فهي شبه جزيرة سيناء فلو هانت علينا حسبما أراد البعض أن يروج لذلك بالباطل فلم كانت الدماء المراقة والتحصينات الشاخصة عبر العصور, والرد ببساطة لكونها مع الصعيد( الجواني) والنوبة والواحات.. أحد أطراف الجسد المصري الذي لا يستقيم توازنه إلا به. فهي في الحرب ذراع طولي تدفع عنا البلاء أو تضرب أربابه ضمانا لأمن الوطن وهي في السلم يد حانية تربت بإمكاناتها البشرية ومقدراتها الاقتصادية علي كتف الوطن, ومن ثم فهي تستحق منا كتيبة نهضوية خاصة تأخذ بيدها للمكانة المستحقة. عسي التاريخ أن يذكر لنا في مراجعاته أن سيناء قد تعافت بعد أربعين سنة( أكتوبرية) لتصبح بحق وجه مصر المشرق.. ولم لا وهي أساسا تقع في مشرق مصر المحروسة. (إشراقات السعدي18) أكتوبر هذا العام ليس مجرد ذكري وطنية نسترجعها أو مناسبة قومية نستدعيها, إنه احتفاء بإعادة صياغة هذا الشعب وإمكانية استنهاض كوامنه والتأكيد علي حسن توظيف قدراته.. أو في المجمل هو عيد للمصرية في ثوبها الجديد. رابط دائم :