سهير عبد الحميد قد لا يعرف الكثيرون أن تلك الفنانة المصرية التى قدمت عشرات الألبومات الغنائية الناجحة والدراما التليفزيونية المتميزة، وشاركت فى العديد من الحفلات الوطنية، وكرمتها وزارة السياحة لدورها فى توصيل الأغنية العربية إلى الساحات العالمية، هى من جذور أرمينية. فالفنانة أنوشكا من أسرة جاء ضلعاها من ولايتين من ولايات الأناضول المنكوبة التى ذبح منها من ذبح ونجا من نجا من (أزمير) جاءت جدتها لأمها، ومن (بوليس) جاءت جدتها لوالدها، نشأ الأب والأم هنا، وولدت هى مصرية الأب والأم. أرمينية الجذور التى حرص الوالدان على تأصيلها بأن تتلقى تعليمها فى مدرسة كالوسديان الأرمينية. الفنانة أنوشكا التى فتحت معها باب الذكريات قالت لى: إنها علمت حجم المأساة التى تعرض لها الأرمن من خلال تلك الخطابات المتبادلة بين جدتها لأمها وشقيقتها بعد أن افترقتا وقت المذابح، فجاءت إحداهما إلى مصر بينما فرت الأخرى إلى أرمينياالشرقية، الخطابات مشحونة بالوجع والوحشة، خصوصا أن وسائل الاتصال وقتذاك كانت ضعيفة والخطابات تصل بعد فترة. الألم والوجع كانا باديان فى الكلمات التى نقلت لى كم المعاناة، خصوصا أن الكثير من حكايات جدتى حول المذابح لم أعد أتذكر منها إلا النزر القليل لصغر سنى، وعندما توفيت والدتى وفتحت كنز الذكريات عثرت على تلك الخطابات وصور قديمة، كنت أتمنى لو أعلم كل من بها من شخصيات.. فكم هو مثير للشجن أن تبحث فى شجرة عائلتك. وعلمت ثانية تلك المرارة... مرارة الفراق وفقدان الأهل فى حكايات صديقاتى بمدرسة كالوسديان الأرمينية التى كان بها نحو 250 ألف طالب.. كانت الحكايات موجعة لأطفال فقدوا الأب أو الأم أو الاثنين معا، بل وأطفال فقدوا أسرهم بالكامل. وعلمت هذا الألم من خلال حكايات الأسرة حين التقينا ببعض أفرادها منذ زمن بعيد، حيث حاول أولاد خال أمى جمع شتات الأسرة التى فرقها العثمانيون فخالى يقطن أزمير، ولأمى أقارب فى كندا والولايات المتحدة.. لكن برغم هذا كله لم يفكر أبى أو أمى مطلقا فى مغادرة تراب مصر، وكان والدى وهو لاعب كرة سلة فى فريق النادى الأهلى يقول «أنا اتولدت فى مصر وسوف أموت بها» وأمى كذلك، وأنا بدورى أعشق تراب مصر وعلمها، ودائما أحاول من خلال عملى أن أرفع اسم بلدى، وأعلم جيدا أننى وشقيقتى لو كنا ذكورا لانضمننا إلى الجيش وقمنا بتأدية الخدمة العسكرية. حتى اسمى نفسه هو مزيج بين الأرمينية والمصرية، فهو بالأرمينية يعنى الشىء المسكر، وبالهيروغليفة منبع الحياة فى مدينة الشمس، وبقدر حبى واعتزازى بمصريتى وحرص والدى على مصريتهما، علمانى الأرمينية إلى جانب الإنجليزية والفرنسية، والطريف أنهما عندما كانا يريدان ألا أفهم أنا وشقيقتى ما يقولان، يلجآن إلى التحدث بالتركية التى كان يتقنها كل الأرمن الذين عاشوا فى أرمينياالغربية (الأناضول)، وقد زرت أرمينيا مرتين، وعائلتنا فنية جدا، فشقيقتى فنانة تشكيلية فى فرنسا، وقد حصلت على بكالوريوس الفنون الجميلة بامتياز، وابنة خالتى مطربة أوبرا فى باريس، وابن خالتى مدير إضاءة مسارح، وابن خالة أمى عازف كمان ماهر، وبالقطع أنا أنظر إلى تاريخ الأسرة بقدر كبير من الاحترام والتبجيل لتلك المعاناة التى عاناها الأجداد، وإلى تلك الأناقة التى تحملها صورهم القديمة. وكل صديقات والدتى اللاتى غادرن مصر إلى أرمينياوكندا، ظلت مصر فى وجدانهم، وكلما ذكر اسمها اغرورقت أعينهم بالدموع، وأبناؤهم عانوا لأنهم نشأوا بمصر ثم غادروها فأصبحوا كمن شطرت روحه إلى شطرين، أما أنا فأحمد الله أننى نشأت وولدت فى مصر وظللت بها، فلم أعانى هذا الإحساس لأننى أعشق تراب مصر وعلم مصر وأنحنى لجندها احتراما .