تاريخ هذه الصورة الفوتوغرافية يرجع غالبا الي نهاية الأربعينيات من القرن الماضي. وقد التقطت في شارع بالجيزة بالقرب من المقهى الذي كان يديره عم والدي واسمه «صامويل جورجيسيان».. والمقهى كان قريبا من شركة الدخان «ماتوسيان» وبما أن كثيرا من الأرمن كانوا يعملون في «ماتوسيان» فالمقهي كان ملتقاهم المفضل يمضون فيه أوقات فراغهم بعد الانتهاء من العمل. صامويل وشقيقه توماس (جدي) لجأ لمصر مع نزوح الأرمن وتشريدهم من جراء المذبحة أو الإبادة الجماعية التي تعرض لها الأرمن في ديارهم على أيدي الأتراك العثمانيين عام 1915. وفي الصورة نرى الأخين (جورجيسيان) مع زوجتيهما في الصف الجالس. بالنسبة لوالدي «كيروب» ومعه والدتي «روزيت» فأراهما واقفين في الصف الأخير،أما الباقي من أفراد العائلة في الصورة فهن «بنات العيلة» حينئذ. ابنة صامويل «نيفارت» وبنات توماس الثلاث «أرمين وشاكيه وتاكوهي» واثنتين «أليس وظوفيج» من أخواتي الثلاثة وأختي الثالثة «سيران» لم تكن ولدت بعد. وجدير بالذكر أن والدي من مواليد 1911 وعرف المذبحة ورحلة الشتات وهو في الرابعة من عمره وخلالها فقد والدته وأخته،نعم والدي كان من ضمن من تم تعريفهم وتوصيفهم فيما بعد في الذاكرة الأرمنية ب»جيل بلا طفولة». والكثير منهم (ووالدي كان واحدا من هولاء) حتى عندما كبر ظل صامتا لا يتكلم.. أو كان قليل الكلام. ولذلك كلما كانت تتكرر مني المحاولة لمعرفة المزيد من والدي عن تلك الأيام السوداء يجئ الصمت التام وقد تأتي أيضا النظرة الثاقبة وغالبا الدموع في العينين.. وفي يوم ما (لن أنساه أبدا) جاءت الكلمات محددة ومنبهة»هل أنت تريد مني أن أسترجع لحظات أنا لا أريد أن تأتي لا الي ولا اليك من جديد ولو حكيا». وفي يوم آخر عندما نبهنى والدي لكثرة الكلام لدى واصراري على البوح بكل ما في قلبي قلت له مازحا: «اعمل ايه؟ باستعمل حقي أنا وحقك أنت كمان في الكلام!!»
وبما أني ذكرت سيرة المذبحة وعام 1915 يجب أن أشير الي أني لا أدخل أبدا في جدال تاريخي وتأريخي (والهمزة على الألف) حول قضايا عديدة تثار وأسئلة كثيرة تطرح حول المذبحة الأرمنية والتشكيك في حدوثها والتقليل من حجمها ثم تثار أيضا قضية الاعتراف بها أو عدم الاعتراف بها. فالشعوب وقضاياها وبالطبع ذاكرتها (في اعتقادي وايماني) تعيش وتبقى حسب ارادتها وليس أبدا حسب ما يقوله الآخرون وما يعترفون به.. وعلى العالم وأيضا القدر أن يستجيبا لهذه الارادة هكذا يقول لنا التاريخ الانسانى. وأنا عندما أحكي لا أكتب التاريخ بقدر ما أحافظ على الذاكرة .. وأعطي معنى لحياتي.
ورغم عدم وجودي في الصورة اذ لم آت الى هذه الدنيا الا بعد التقاط الصورة بسنوات عديدة الا أننى أجد نفسي في الصورة وفي الحكايات المرتبطة بأفراد الأسرة والى أين ذهبوا في رحلة حياتهم. وكلما أردت أن أرى نفسي وأتعرف عليها أكثر فأكثر من خلال أفراد أسرتي وحكاياتهم مع الحياة أقوم بزيارة جديدة لهذه الصورة.. الصورة التي التقطت في الجيزة. وبما أن التقاط الصور في ذلك الزمان كان أمرا نادرا كما أن الاحتفاظ بالصورة أو وجود أكثر من نسخة منها لم يكن بالأمر المعتاد فان هذه الصورة لم أرها الا منذ سنوات قريبة لدى أحفاد صامويل في أرمينيا. فوالدتهم «نيفارت» ابنة «صامويل» تركت لهم صورا قديمة منها هذه الصورة. والصورة كانت فرصة لا تتكرر لكي نحاول من جديد معا أن نتذكر ما نعرفه وما نريد أن نتذكره وما قد نكتشفه عن شجرة عائلتنا وفروعها وثمارها..
ان هذه الصورة تجمع بين شبرا والجيزة. شبرا الذي عاش فيه وأيضا مات فيه كل من جدي ووالدي. وولدت فيها أنا وعشت فيه سنوات الطفولة والصبا والشباب. أما الجيزة فهي الحي الذي عاش فيه عم والدي لسنوات طويلة قبل أن يسافر في بداية الستينيات الى أرمينيا ويعيش مع ابنه وأحفاده ثم يموت ويدفن في أرمينيا. ومن يصدق أن «صامويل» صاحب المقهى في الجيزة قد نزح من «سيرت» في شرق تركيا مثلما كان الحال مع جدي ووالدي وأنه كان يتطلع دائما الى أرمينيا «الحرة والمستقلة» وكان هذا تطلعه قبل وبعد أن تصبح أرمينيا «احدى الجمهوريات السوفيتية». وأن ابنه «كيفورك» الذي لا يظهر في الصورة ذهب في نهاية الأربعينيات الى أرمينيا فكان مصيره «سيبيريا». وهناك تزوج «كيفورك» من «أليس» أرمينية من سوريا ورزقا بابنة وابن «أراكسي» و«صامويل» (الثاني في الأجيال المتلاحقة) ثم كانت عودتهما من المنفى «سيبيريا» الى أرض الوطن. وفي عام 1961 ولد ثالث الأبناء «موفسيس» الذي سرعان ما فقد والده فكان الجد «صامويل» (الآتي من مصر) حاضرا لكى يحتضن حفيده الصغير ويربيه ويعلمه كل ما كان يؤمن به ويتطلع اليه سواء كان في «سيرت» أو «الجيزة» أو «يريفان»عاصمة أرمينيا. «موفسيس» الحفيد تعلم الاخراج المسرحي وتحرك وسط الطلاب والشباب والشعب مطالبا بحقوق الشعب في تقرير المصير والحرية والاستقلال وقد اعتقل أكثر من مرة. وفي عام 1988 رفع «موفسيس» ولأول مرة بعد 70 عاما وأمام مئات الآلاف من الشعب.. العلم الأرمني الوطني التاريخي بألوانه الثلاثة (الأحمر والأزرق والبرتقالي). وقد استشهد «موفسيس» حفيد «صامويل» في يناير 1990 وهو في ال29 من عمره. ومع اعلان استقلال أرمينيا 1991 تم تسمية «موفسيس» ب»بطل قومي» .. وتم اطلاق اسمه على مدرسة الحي الذي تعلم فيه وأيضا على أماكن ومراكز أخرى على امتداد البلاد. ونعم عندما أنظر للصورة أرى «موفسيس» في هذه الصورة التي التقطت في الجيزة وهو الذي ولد في «يريفان» عاصمة أرمينيا بعد أكثر من عشرين عاما من التقاط الصورة . كما أن زوجته وابنته ورفاقه عندما تستمع اليهم يتحدثون بفخر واعتزاز عن هذا البطل «موفسيس» وجده «صامويل» الأرمني القادم من مصر. لقد كانت هذه بعضا من حواديت الجيزة في هذه الصورة ولم أتطرق في هذه الالتفاتة الى حواديت شبرا في الصورة العائلية.. وهي بالمئات وشيقة للغاية وأكيد «حلوة حلاوة!!»
ان هذه الصورة جمعت أفراد أسرة أرمنية اسمها «جورجيسيان» في لقطة نادرة وخالدة في مصر وجاء مرور الأيام ليفرق بينهم من جديد.. حتى لو بقى البعض منهم في مصر. نعم أنظر للصورة وأرى خريطة العالم .. أرى مصر وأرمينيا ولبنان والعراق وفرنسا وهولندا وأمريكا وكندا سواء كانوا في عالمنا أو في العالم الآخر.ومصر دائما حاضرة وحاضنة في ذاكرتهم. وكلما نظرت الى هذه الصورة والوجوه الموجودة فيها أتذكر عائلتي وشجرة العائلة الممتدة بأفرعها وثمارها عبر خريطة العالم. وكيف أن هذه العائلة الصغيرة والبسيطة على مدى نحو مائة عام عاشت ما كان قدر الأرمن في ذاك القرن من المذبحة والرحيل والشتات بمحطاته والمنفى والعودة الى أرمينيا واستقلالها.واذا كانت عبارة «أن تعيش لتحكي» جسدت العنوان والتوجه والمنهج والمسار الذي اختاره الكاتب الكولومبي جبرييل جارسيا ماركيز لكي يعيش ويحكي ويسرد حكايته مع الأيام فان هذه العبارة تحولت لدى الى «أن أتذكر وأن أحكي لأعيش» كعنوان وتوجه ومنهج ومسار في حياتي وكتاباتي وأيضا تفاعلاتي اليومية مع خلق الله في كل بقاع العالم. ما يسمى ب»ذاكرة شعب» ومخزونه التاريخي والثقافي هو شغلي الشاغل وعشقي المتواصل.. وكيف أنك بهذه الذاكرة التي تلجأ اليها وبهذا المخرون الذي «تغرف منه» تعيش في وفاق مع نفسك وتاريخك وماضيك وأصولك وتشابهك مع الآخرين وأيضا اختلافك عنهم. وأتذكر دائما تلك الحكمة التي سمعتها في واشنطن من أستاذ للتاريخ والحضارات «انه لأمر مهم أن يكون لك التاريخ ولكن الأمر الأهم بلا شك أن تكون لك الذاكرة»
ولذلك عندما أجلس مع ابنتي وأولاد وبنات العائلة .. والأجيال الصاعدة منها لا أتردد في أن أظهر هذه الصورة من جديد لأني أعرف أن هذه هي فرصتي لكي نتواصل مع الماضي مع شبرا والجيزة من جديد ونحتفي بالذاكرة. لكي نأتي بسيرة المذبحة الأرمنية ؟ ولماذا عرفت أسرتنا الشتات؟ وماذا كانت مصر ومازالت في بالنا وحياتنا وتاريخنا؟ وماذا يعني أرمينيا الماضى والحاضر والمستقبل والحلم والأمل؟ ثم لماذا لا نكف ولا يجب أن يكف الأرمني عن الحكي والكلام والسرد والغناء والرقص أيضا من أجل البقاء والابقاء على وجوده وتراثه الحضاري والتاريخي؟ وبالتأكيد لدى ايمان لا يتزعزع بأهمية أن نعيش لكي نتذكر ونذكر.. وبضرورة أن نتذكر ونذكر لكي نعيش، بل لكي نحيا.انها «مائة عام من الذاكرة».
ولقد قيل أن الصورة بألف كلمة الا أن هذه الصورة بالتأكيد تحتاج آلاف الكلمات لكي تسرد مئات الحواديت عاشتها أسرة أرمنية واحدة كان قدري أن أكون منها وأكون بها وأكون لها.. وأن أعيش لأفتكر وأتذكر وأذكر وأحكي.هذا هو واجبي.. وهذا هو حقي أيضا.