روائية لامعة, نشرت روايات عديدة حظيت بالتقدير شرقا وغربا وأثار بعضها جدلا وصخبا, غير أن الصخب دوي بعنف كأنه انذار بالموت, عندما اسدل الستار المعتم والقاتم علي حياتها الأدبية لتورطها في تهمة سياسية مشينة. فقد شاء قدر الروائية كرستياوولف أن تنتمي لألمانياالشرقية وقت طغيان نظامها الشمولي, وهيمنة الاتحاد السوفيتي علي الدول الدائرة في فلك منظومته الايديولوجية الشيوعية. وكانت كريستيا قد ولدت في بولندا, واضطرت إلي الرحيل مع أسرتها هربا من أتون المعارك التي شنها النازي الألماني هتلر إبان الحرب العالمية الثانية, واستقر بها المقام في ألمانياالشرقية عام1945, وسرعان ما انضمت طواعية واختيارا لعضوية الحزب الشيوعي, وكان الحزب آنذاك يتدثر بعباءة المدينة الفاضلة( اليوتوبيا), ولم يكن ذراعه الأمني قد استطالت وصال وجال, وصار مطرقة لقمع المواطنين, يعرف باسم مباحث أمن الدولة أو ستاشي. وعندما عصفت الثورات الديمقراطية التي هبت علي أوروبا الشرقية عام9891, بالنظم الشمولية, كانت ألمانياالشرقية في قلب إعصار الحرية, وانقض أهلها علي سور برلين ودمروه, وأسقطوا نظام اريك هونيكر الذي هيمن علي البلاد منذ عقد السبعينيات. ولم تكتف الجماهير الغاضبة بإسقاط هونيكر ونظامه, وإنما اندفعت ذات يوم من عام1990 نحو مقار أمن الدولة, واقتحمتها في مشهد مثير لم يحدث في بلدان أوروبا الشرقية, وتسربت التقارير السرية للدولة البوليسية, وطالت شذرات منها كريستيا وولف والتصقت بها تهمة تعاونها مع جهاز أمن الدولة وهي تهمة أدت لانسحابها من الحياة العامة, وكأنها قضت نحبها, وماتت دون أن تلفظ أنفاسها الأخيرة. وهنا يتعين الاشارة الي ان الكتاب الأوروبيين الذين تناولوا بالدراسة ممارسات جهاز أمن الدولة في ألمانياالشرقية الشمولية, ومنهم جون أرداج في كتابه المهم عن ألمانيا الذي صدرت طبعته الثالثة عام5991 قد أوضحوا أن ذاك الجهاز كان صارما وفظا, لكنه لم يمارس القهر المجاني ولا القمع العشوائي, ولم يجرؤ علي عمليات تعذيب مروعة, ولم يتورط في اختطاف المواطنين, كان يتجسس علي أهل البلاد, توطئة لتلفيق التهم ضد من يشق عصا الطاعة علي النظام. ويؤكد الكتاب والباحثون في أوروبا أن أهل ألمانياالشرقية في ظل ذاك النظام الشمولي لم يكن بينهم عاطل, ولم يكن أحدهم يتضور جوعا, وكانت الرعاية الصحية تشمل الجميع, صحيح أن نمط الحياة لم يكن بمثل اليسر والرفاهية التي يتمتع بها أقرانهم في ألمانياالشرقية, لكن حضارة السوبر ماركت لم تكن تؤرقهم كثيرا, وإنما كان ما يؤرقهم حرمانهم من حرية الرأي والتعبير والسفر. واذا كان الأمر كذلك في نظام شمولي عتيد, فإن نظام مبارك الشمولي والاستبدادي بامتياز لا يمكن مقارنته بأي نظام, فقد كان موغلا في الفساد السياسي والمالي والإداري, ولذلك كان إصرار ثورة52 يناير علي إسقاط نظام مبارك ومؤسساته القمعية والأمنية والسياسية. واللافت للانتباه أن المصريين منذ بدء الحراك السياسي وظهور الحركات الاحتجاجية وهم يصبون جام غضبهم علي جهاز أمن الدولة, وكان شعارهم الواعي: ياحرية فينك فينك, أمن الدولة بينا وبينك ولذلك اقتحم الثوار مقار أمن الدولة في هجوم علي الدولة البوليسية, عندما أتاهم نبأ اضطلاع ضباطها بفرم الوثائق واضرام النيران فيها. وهو هجوم لم يحدث في العالم منذ هجوم الثوار الألمان علي مقار أمن الدولة شتاسي, فقد كان من الضروري وطنيا وانسانيا كسر مؤسسات صناعة الخوف, بعد كسر حاجز الخوف في ثورة ميدان التحرير وميادين المحافظات المصرية. المزيد من أعمدة محمد عيسي الشرقاوي