أستهل العام الجديد بالحديث عن شاعر أحبه وأتحمس له ولشعره, هذا الشاعر هو الثالث في سلسلة شعراء أربعة أنجبهم الشاعر العمودي عبدالله الأنور التلميذ النجيب في مدرسة الاحياء الشعرية, وبخاصة لامامها محمود سامي البارودي, وفي بيت هذا الشاعر المبدع, وفي ظل رعايته وتوجيهه المباشر, وحنان أم شاعرية الروح, والتكوين هي حفيدة الشاعر الكبير ولي الدين يكن, في هذا البيت تفتحت شاعرية فولاذ الابن الاكبر, الذي لم يخيب ظن أساتذته فيه منذ كان طالبا في مدرسة سوهاج الثانوية, وهو الآن عضو في لجنة الشعر بالمجلس الأعلي للثقافة, وبعده الابن الثاني في شجرة العائلة مشهور, الذي رحل عن عالمنا مبكرا بعد ان احتجب سنوات عمل فيها في دولة الامارات واصطبغ شعره بتيارات الحداثة وثورتها في الشعر واللغة, وثالثهم أوفي. وهو الذي أكتب عنه اليوم في مناسبة صدور ديوانه ثورة الاشجار ضمن سلسلة اشراقات جديدة عن الهيئة المصرية العامة للكتاب, وفي ختام السلسلة يجيء السماح الذي بدأ شعره يتردد في محافل القاهرة الأدبية وتنافس شهرته شهرة اخوته الكبار. أكتب عن أوفي عبدالله الأنور, الذي أتيح لي أن أشهد ميلاد شاعريته المبكرة, وهو يسوس النشاط الشعري والثقافي في كليتنا دار العلوم, ويرعي أبناء جيله ومن سبقوه قليلا في العمر, ويأخذ بأيديهم, هو الذي منحه تكوينه أبوة مبكرة ووفاء نادرا, وصفاء يكشف عن معدنه المرهف الشديد النقاء والاصالة. وعندما استقر به المقام في بلده سوهاج مؤثرا أن يكون هو من دون اخوته الراعي لوالديه وأسرته, أشفقت عليه من أن يستأثر به واقعه المحلي بمسئولياته وانشغالاته, وكنت كلما سألت عنه أخويه فولاذ أو السماح ردا علي في اقتضاب أنه بخير, ويزداد قلقي كلما طال افتقادي لشعره, حتي اذا فاجأنا بديوانه كانت الفرحة تماثل فرحتي بصدور ديواني الأول وأصغيت مليا إلي بوح أوفي وهو يقول: حين قابلته في مساء شريد/ عربد العشق في مقلتيه, اشتكاه الزمان النحيل, فاحتمي بوحه بالشجي/ وارتمي طرفه كالقتيل/ ما الذي أشعل القلب, ألقي الفتي في طريق الجنون/ما الذي أسكن الورد قطر الندي/ ثم لملم خيط البراءة/ حتي إذا فاض بالوجد/اصطفي نخلة, وارتقي مصعد التوق, وأعد أطيارها بالغلال, وألقي علي العابرين السؤال: لماذا الهوي؟ ولماذا الكلال؟ ان قلبي طريد, وشدوي وليد, وأغنيتي لم يزل لحنها موغلا كالغريب!. الله! الله! هذا شعر بكر, يصدر من حنايا قلب ثم تجترح براءته ولم يفسد نقاؤه في لغة أحكم صنعها واختمرت طويلا قبل أن تسبح في فضاء الورق, حاملة هذا البوح الشجي وهذا الافضاء العذب, وهذا النفس المتسرب في حناياها متوهجا بالصدق الفني الذي حير البلاغيين, كشف سره وكيميائه حين خلطوه بغيره, ولم يحسنوا استقبال شحنته اللاهية, وتأمل آثاره البعيدة في القرار العميق من النفس. نعم, عندما يصل بنا شعر أوفي إلي هذه المنطقة من النفس, فنحن نسبح في قضائه الانساني, ونسيج روحه المرفوقة في جذل وانطلاق: .. هي طفلة, سكن الجمال بوجهها, وبعينها طوفان أشواق, ورحلة سندباد/ولها عصا نبوية الايقاع, إن ضربت تفتق نهر عشق, واختفي زمن نحيل, وتراجع الشرطي عن لفتاته, وتحول الحكام أروقة, يطوف حولها الشعب العيي/ فتهطل الرحمات يخضر المدي الممتد, تصهل حينذاك يمامة, ويحط قمري وتشدو وردتان. الصورة الشعرية في ديوان ثورة الاشجار لأوفي عبدالله الانور تستمد بهاءها ونضارها من عناصر نألفها وتألفنا, ليست غريبة, أو مصنوعة, وإنما فيها من المدي الفسيح لشاعر تمنحه مدينته الجنوبية سوهاج زخم صهدها وفتنتها, ويظلله نخيلها بكينونته الأسرية التي تجعل من كل نخلة عمة في المكانة والمقام والرعاية, وهو ما يضفي علي هذه الصور الشعرية أمومة احتوائها للعالم الذي يتحرك فيه الشاعر, وهو ينزع وجدانه في كل يوم بالجديد والمزيد من حكايا الأحبة والراحلين, وغيابات المهاجرين والمفارقين, وتطلعات العيون الشاخصة بقلقها وبراءتها وعذابتها. ومددت كفي, فاقشعر الباب, هرول حاملا بيتي وجيراني وشارعي القديم وقريتي وكلاب دربي حارسي الليلي هي رد الصدي؟ إن المدينة كلها رحلت, ووجهي لم يزل يترصد الرؤيا ويبحث عن مصير لملمت جرحي, وامتشقت فؤادي البواح, ثم لكزت خيلي عائدا يشتاق لو ردت حنين فؤاده الصحراء, أو غنت فجيعته المسافات التي شهدته تواقا لنبع الماء. هذا الديوان الجديد حقا, يقول لنا ان شعر الشباب بخير, وان الذين اتكأوا علي تراثهم الشعري قبل أن يلحقوا ويرفرفوا, وتمكنوا من الاحاطة بجمالياته وأسرار كيميائه, هم المؤهلون قبل غيرهم إذا ما أسعفتهم الموهبة, وأشعلتهم نار الشعر المقدسة, لان يدعوا شعرا حقيقيا, لا زيف فيه ولا تصنع لا معاظلة فيه ولا تصنع غرابة أو ألغاز, وإنما هو الشعر العذب الصافي يصدر عن أنهار الشعر المترقرقة المنسابة في عذوبة ووداعة وصفاء. لقد احتجبت عنا طويلا يا أوفي وأخشي أن يطول انتظارنا لمجموعتك التالية, وافتقادنا لعذوبة صوتك الشعري والإنساني, فعجل بها ولا توقفنا طويلا علي أبواب الانتظار, فمثلك جدير بأن يقحم الساحة في ثقة واقتدار, وأن ينافس أول ما ينافس أخويه المبدعين: فولاذ والسماح!.