مثل غالبية المصريين لم تحملني قدماي كثيرا الي أقسام الشرطة, أو حيث يعمل رجالها برغم سنوات العمر التي تكاد تبلغ نهاية عقدها الخامس. لم يحدث في حياتي شيء يستدعي ذلك باستثناء بعض المصالح القليلة التي لا تنتهي إلا هناك. في الأسبوع الماضي كان لابد أن تأخذني خطاي الي أحد مرافق الشرطة. لقيني شاب لا أعرف حتي الآن ما إذا كان نقيبا أو رائدا, لم يغادر بعد سنوات العشرينات. كانت ملامحه هادئة تحمل شيئا من الإصرار والتحدي, بينما كانت حركته توحي بكامل حيوية الشباب وعنفوانه. شيء ما في وجه ذلك الشاب بدا لي ملفتا ولكنني لم أتبينه علي وجه الدقة ولم اشغل نفسي به. تحدثت بما جئت من أجله. لم تربطنا سابق معرفة ولكنه كان متعاونا متفهما. كنت سعيدا بهذا الشاب ولكن سعادتي غاصت في موجة من الأحزان بدأت أتجرع شيئا منها حين استعدت من الذاكرة اسم ذلك الشاب, الوسيم.. نعم هو نفسه ذلك الشاب الذي ذهبت رصاصات تجار المخدرات بإحدي عينيه في فجر يوم من أيام العام قبل الماضي في المنطقة الواقعة بين طريقي الإسماعيلية والسويس. اذكر جيدا حكايته لأنني استشهدت بها في محاضرة عن الإعلام الأمني في إحدي الأكاديميات الأمنية العربية. اخترقت الرصاصة عينه اليمني لتمر من عظمة الأنف لتصيب اليسري بشيء من الحروق. قتل الرصاص أحد الجنود المرافقين له وبقي هو يواجه الحياة بعين تري وأخري من زجاج. الآن عرفت الذي لفت انتباهي في ملامح وجهه. سألته لو عاد الزمان به هل كان يقدم علي مطاردة تجار المخدرات في الصحراء ليلا؟ إجابته ملأتني خجلا من سؤالي. تركت مرفق الشرطة حاملا معي صورة ذلك الشاب وما قد يعتمل في نفسه من معاناة. علي كوبري أكتوبر حيث الزحام وفوضي قيادة السيارات ودرجة الحرارة تكاد تبلغ بك الأجل المحتوم, كان رجل من رجال الشرطة تشير ملابسه الي رتبة عميد يقف علي قدميه تحت الشمس ووسط الدخان والزحام يستحث الناس علي المضي واتباع النظام, بينما هم في سياراتهم ساخطون علي الزحام والمرور والحرارة, وربما ايضا علي ذلك الرجل الذي يقف يحاول تنظيم السلوكيات المنفلتة رحمة بأصحابها. في ذلك الموقف تذكرت عم نسيم ذلك الرجل الطيب الذي كان يعمل في المطافيء في بلدتي منذ نحو نصف قرن. كان قش الأرز يعلو أسطح المنازل يهدد الجميع في كل وقت بالحريق. دخل الرجل بيتا يحترق لإنقاذ طفلة حاصرتها النيران فلم يعد. ترك وراءه معاشا صغيرا وثلاثة أطفال وزوجة لا تقرأ ولا تكتب. لم تنس القرية يوما أبناء عم نسيم. فقد ورثوا في وجدان القرية بطولة أبيهم. وظل الرجل لسنوات نموذجا يتمني تلاميذ المدرسة أن يبلغوه قبل أن يزاحمه تلك المكانة نجوم الكرة ومطربو هذه الأيام. قائمة الأخطاء في عمل الشرطة طويلة بحجم أعمالها وأعداد رجالها, ولكن قائمة التضحيات أطول وأعمق وأثمن من كل الأخطاء. شيء ما تغير في مصر. لم يعد الناس يكترثون بمهام المؤسسة الأمنية وخطورتها, ولم يعد كثيرون ينظرون بشيء من الرضا لعمل رجال الشرطة. أصبحنا أكثر ميلا لتعميم الأخطاء الفردية علي الجميع واغتيال دور أهم مؤسساتنا بأخطاء بعض أفرادها. المجرمون في مصر يتحولون الي أبطال لمجرد أنهم قاوموا هؤلاء الرجال. نحن نعيد في كل عصر إنتاج ملحمة أدهم الشرقاوي حيث المسافة الفاصلة بين البطولة والخروج علي القانون في غيبة الوعي قصيرة الي حدود بعيدة. سوف تكشف حالة شاب الإسكندرية عن الكثير من الأخطاء في طريقة تعاطي الرأي العام مع هذه النوعية من القضايا. سوف ندرك أنه لا يجوز للرأي العام أن يواجه جريمة بجريمة أخري. ما يصدر عن رجال الشرطة من تجاوزات صدقا أو كذبا يتحول سريعا الي قضايا رأي عام تتصدر الصحف وشاشات التليفزيون وتملأ صفحات الإنترنت, وتتحول الي منتديات تتوه فيها الحقائق وتتزاحم فيها الأكاذيب. وحينما يسقط العشرات من رجال الشرطة ويضع الإجرام عشرات آخرين منهم في مقاعد المعاقين يصبح نصيب هؤلاء خبرا صحفيا بين مئات من الأخبار. لا تتحول أي من تلك الأحداث الي قضية تشغل الرأي العام يظهر بها شيئا من التقدير والإجلال لهؤلاء الذين كانوا ضحايا الواجب الذي لا تستقيم الحياة إلا به. يبدو لي أن الفارق في الحالتين يكمن في الوسطاء الذين يفيدون من الأولي ولا تنفعهم الثانية. الأولي يمكن أن تتحول الي قضية تباع في بورصة حقوق الإنسان العالمية الراغبة في أن تدفع الكثير كلما كانت القضية أكثر سخونة وأكثر إثارة. أما الثانية فيكفي الشهداء منهم الأجر عند ربهم والمعاقين منهم رعاية وزارتهم. اجترأ المجرمون علي رجال الشرطة بتصفيق وعزف أوركسترا الغضب من كل شيء وعلي كل شيء في مصر, اصبح قدر هؤلاء الرجال أن يتحملوا أخطاء الجميع من صعوبة الامتحانات الي هزيمة فريق في كرة القدم الي قرار خاطيء يصدره رئيس مصلحة, وحتي غفلة الأفراد عن حقوقهم وممتلكاتهم. وفي مجتمع تتدني فيه كفاءة المؤسسات والمصالح وتقل مستويات وعي الأفراد وتتراجع فيه الأخلاق العامة يزداد السخط ويتعرض الأمن للخطر فتتعاظم مسئوليات الأجهزة الأمنية وتزداد شكاوانا. قائمة الشهداء الذين سقطوا من رجال الشرطة في مواجهة محترفي الإجرام لم تعد تشير الي ظاهرة فردية ولكنها تشير الي تغييرات كثيرة أصابت سوسيولوجيا المجتمع المصري وسيكولوجيته. وهي ظاهرة تحتاج الي جهود بحثية متكاملة تتجاوز حدود وزارة الداخلية الي غيرها. فالجرأة غير المسبوقة علي رجال الأمن تنذر المجتمع بأشد الأخطار. فالأسلحة البيضاء المشهرة في كل مكان, وانتشار جرائم القتل البشع, وأعمال البلطجة التي تمارس في الشارع المصري لا تشير الي غياب الأمن بقدر ما تشير الي جرأة الإجرام في مواجهة رجال الشرطة ومخالفة القانون. وهو عمل نتحمل جميعا مسئوليته وسوف نقع ضحية له. فإذا ما أصبح الحال هكذا مع الشرطة فكيف يكون الحال مع المواطنين الآمنين. لقد كتبت هنا قبل أسبوعين عن العنف الحقيقي الذي ملأ شاشات التليفزيون في بيوتنا والذي لم يجعل للحياة البشرية قيمة ولم يحفظ للجسد الإنساني حرمة. وأشير اليوم الي الشحن الإعلامي اليومي الموجه ضد أجهزة الشرطة بأخطاء بعض أفرادها, وافتعال بطولات وهمية لمحترفي الإجرام في مواجهة رجال الأمن, وغياب التوعية المستمرة بما تقوم به تلك الأجهزة وخطورة أن نفقد الثقة فيها أو تفقد هي الثقة أيضا فينا. إن الأمل في الأمن الذي نريد مرهون بالثقة في المؤسسة التي تعمل من أجله. وإذا كانت هناك أخطاء وتجاوزرات من جانب البعض وهي بالفعل قائمة فإن التصحيح والمحاسبة ضرورة حيوية لبث المزيد من الثقة دون تضخيم وتهوين. المزيد من مقالات د. حمدي حسن أبوالعينين