يتكون وجدان الشعب المصري من طبقات تراكمت ذراتها منذ العصور القديمة السابقة علي عصر الأسرات إلي الحقب الحديثة والمعاصرة. وامتلك المصريون موهبة فذة في تضفير مكونات وجدانهم, حتي صارت ضفيرة واحدة محكمة الفتل, بقيت مستعصية علي التفكك والتحلل, رغم تعرضها لعوامل تعرية وتجريف وتدمير, ومنها ما بدأ يحدث هذه الأيام إثر ظهور اتجاهات التشدد المذهبي, التي يعلو صوت منظريها ودعاتها بدرجة غير مسبوقة. في الضفيرة الوجدانية المصرية تأخذ المرأة القوية الصابرة مكانة متميزة, وها هن إيزيس والسيدة العذراء والسيدة زينب يأخذن مكانة فريدة! فإيزيس تحملت مقتل أخيها وزوجها أوزوريس ومضت تجمع أشلاءه, بعد أن مزقها إله الشر ورماها في أفرع النيل التي تجاوز عددها الأربعين, ثم تمددت إلي جوار الجسد الممزق فحملت حملا معنويا في حورس.. ومن دموعها جاء فيضان النيل!.. وهي بذلك كانت طاهرة إذ حملت بغير لقاء جسدي!. والسيدة العذراء حملت ابنها بغير لقاء جسدي هي الأخري وتحملت تشهير اليهود واتهاماتهم, ثم تحملت هي وابنها عسف الرومان وظلمهم, وشقت طريقها للأمان في مصر, ثم كانت محنتها الكبري حسب الاعتقاد المسيحي عندما أخذ ابنها في طريق الآلام حافيا يمشي علي الشوك, وعلي رأسه وضعت الأشواك ثم حدث الصلب!. وتأتي المفارقة المبدعة في الوجدان المصري, عندما لقب المصريون السيدة زينب بنت الإمام علي وشقيقة الإمام الحسين بالطاهرة أم هاشم الطاهرة, ونصبوها رئيسة لديوان دولة الحقيقة وبثوها شكاواهم, وهي أيضا شهدت المحنة الكبري في كربلاء, عندما قتل جيش الطغاة أخاها ومعظم الرجال من آل البيت, وبقيت وحيدة تدافع عن آخر فتي من أبناء الحسين, هو علي زين العابدين, ثم مضت شامخة مفوهة الخطاب في موكب الأسري من أبناء رسول الله صلي الله عليه وسلم!.. ثلاث نساء جمعهن الطهر والمحنة فأخذن مكانة سامية في قلوب المصريين. تلك لمحة من لمحات عبقرية الوجدان المصري في الضفيرة المصرية القديمة المسيحية الإسلامية, ثم أستأذنكم في لمحة أخري, حيث مازال المصريون في عمق الوطن يقاومون الشر بالخمسة وخميسة, وفيها جمعوا في الضفيرة خيوطا أخري تتجاوز ما هو مصري خالص إلي ما هو مرتبط بالأسر المقدسة, حتي وإن كانوا من غير المصريين, ولكنهم يجتمعون في حب مصر واللجوء إليها, باعتبارها حصن الأمان الشامل.. تطعم وتسقي وتكفل الأمن والطمأنينة... الخمسة الأولي هي أسرة سيدنا إبراهيم الخليل, وأسرة النبي يعقوب, وأسرة النبي موسي, والأسرة المقدسة, والخامسة آل بيت النبي محمد صلي الله عليه وسلم وربما كانت الخمسة أيضا مكونة من النبي محمد صلي الله عليه وسلم والإمام علي والسيدة فاطمة الزهراء والإمامين الحسن والحسين!.. فماذا عن الخميسة, التي هي في اللغة مصغر خمسة, أي خمسة غير مكتملة, إنها الأسرة المقدسة أي السيدة العذراء والسيد المسيح له المجد ويوسف النجار خطيب مريم ومعهم سالومة أي أربعة أفراد! هي الخمسة وخميسة التي تدفع عين الحاسد وتدرأ الشر وتحمي الإنسان, أفرأيتم تضفيرة عبقرية علي هذا النحو؟!. ثم تعالوا بنا إلي ضفيرة ثالثة, هي ذلك المزج العبقري بين تراتيل مصر القديمة والتراتيل المسيحية والإنشاد الإسلامي, ومن عاش مثلما عاش كاتب هذه السطور وملايين آخرين من المصريين حياة القاع الشعبي, وطاف الموالد والاحتفالات الشعبية, وحضر القداسات واستمع إلي الأنغام في الكنيسة.. ثم إلي المنشدين في مولد مار جرجس وموالد العذراء والقديسين الآخرين, ثم شارك في حضرة الذكر الصوفية, وتمايل علي شدو منشد الحضرة وإيقاعات نقيبها, واستبد به الانتشاء مع أشعار ابن الفارض وابن عربي والحلاج, فإنه سيعرف عمق هذا الامتزاج العبقري, ولن ترفض أذنه كير ياليسون, بل ستحبها مثلما تحب مولاي صلي وسلم دائما أبدا!. لقد كانت مشاهد وأضرحة آل البيت والقديسين في الأديرة, ثم أقطاب التصوف من القنائي والشاذلي والفرغل جنوبا إلي المرسي أبي العباس وسيدي بشر الحافي شمالا, مرورا بالبدوي والدسوقي وسيدي شبل ابن العباس وغيرهم, هي البوتقة التي انصهر فيها جزء كبير من وجدان المصريين, وعرفنا من نتاج هذه البوتقة أصواتا عبقرية هائلة قرأت القرآن الكريم, وأنشدت البردة والمدائح والأشعار الصوفية.. وكذلك الخولاجي المسيحي. إننا إزاء خطر داهم كرياح السموم الصرصر العاتية, التي تحاول اقتلاع جذور وجذوع وأفرع وغصون وأوراق هذا التراكم الحضاري الثقافي الفذ, بدعوي أنه بدع وضلالات ولهو ولعب!!, ولن نستطيع المواجهة إلا بإقامة حوائط الصد الحضارية المتينة بأن نتوسع في برامج التذوق الفني لدي الأجيال الصاعدة.. وأن ننزل إلي الموالد والاحتفالات الشعبية لنسمع المادحين والمنشدين, ونستمتع بروح التكافل والتواد والتراحم ونطعم الجائعين ونروي الظامئين!. لا بد من جبهة وطنية عريضة, ليس للسياسة والإنقاذ وما شابه, ولكن للحضارة والثقافة والوعي والتذوق!. وهنا يتعين أن أذكر بكل الاحترام والتقدير والمحبة والإعجاب الفنان العبقري انتصار عبد الفتاح, الذي قدم وباقتدار شديد نموذجا جديدا فذا من نماذج الضفيرة التي أتحدث عنها, فمزج القديم بالقبطي بالإسلامي, واستطاع أن يجذب ألوف العاشقين لمصر وللتراث وللتفرد المصري, الذي لا مثيل له في كل الدنيا, وأدعو إلي أن يتحول جهد انتصار عبد الفتاح, الذي تتعاظم قيمته الآن أكثر من أي لحظة سابقة إلي مداميك في حائط الصد الحضاري الثقافي, وأن نكون نحن الشغيلة الذين يعملون تحت إشرافه في رص المداميك ووضع المونة.. وما المونة هنا بأسمنت وجبس, ولكنها المشاعر والإبداع والعطاء والحضور والكتابة والدعاية, بل والفعل المقاوم الذي هو أكثر دواما من أي قتال. المزيد من مقالات أحمد الجمال