في مولد النبي كانت مصر كلها تسعي للحصان وللعروسة! وهما من حلاوة مطبوخة لونها بمبي، وفوق الحصان فارس يمسك رمحًا، أما العروسة ففوق رأسها تاج علي شكل مروحة! وقالوا إن الاحتفالات بالمولد الشريف تعود للعصر الفاطمي، وبعضهم قالوا إنها بدعة مستحدثة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار، وغيرهم قالوا إنها مجهولة المصدر وهي محض فولكلور لإدخال البهجة علي الأطفال. أما أنا فأذهب مع الذاهبين الدارسين إلي أن الفارس والحصان هما ماري جرجس وحصانه ورمحه، وأن العروسة هي العذراء مريم وتاجها النوراني الذي يظهر علي شكل مروحة!، وأذهب إلي أن الاحتفال بهما، أي بماري جرجس والعذراء، له صلة كبيرة بقصة الحاكم بأمر الله الخليفة الفاطمي الذي أشاعوا عنه أنه كان مجنونًا ملتاث العقل متضارب الأفكار، وهو لم يكن كذلك كما تحدثنا وقائع التاريخ، بل إن البعض يري أنه كان عبقريًا موهوبًا وعالمًا ومفكرًا مثقفًا! لقد كان والد الحاكم بأمر الله هو الخليفة الفاطمي، وكانت أمه شقيقة بطرك القدس، وشب الطفل في ظل أب إمام معصوم خلْقيًا من الخلقة ، وخلُقيًا من الأخلاق كما تذهب المذاهب الشيعية، ثم إنه كان يحب خاله ويلتقي به ويذهب بين حين وآخر إلي الأديرة ليشاهد الرهبان وطقوسهم، وعندما تولي الحكم كان تفكيره قد تبلور باتجاه صوغ مذهب جديد يجمع بين سماحة ومحبة المسيحية، وبين قوة منطق الشريعة الإسلامية وعظمتها، وهداه تفكيره إلي أن العدل الإلهي يقتضي ألا يحاسب الإنسان علي سلوكه في حالة واحدة، أي أن من العدل أن المرء يحاسب علي ما يفعل في حالة الغني وأيضا في حالة الفقر، وفي حالة العلم وحالة الجهل وفي حالة الصحة وحالة المرض.. إلي آخره، ومن ثم فإن الروح الواحدة تنتقل من قميص أي "جسد" إلي قميص آخر "جسد آخر"، لتعيش كل الحالات وليأتي حسابها في الآخرة عادلاً لا غبن فيه! وسمي الحاكم مذهبه بمذهب "الموحدين" الذي اشتهر بعد ذلك بالمذهب "الدرزي" وهو اسم أحد الأتباع الخارجين علي تعاليم الحاكم المؤسس!، وليس الاسم الأصلي للمذهب مزج الحاكم بين مضامين مسيحية ومضامين إسلامية كما أسلفت، وانعكس ذلك علي حياة الناس فتداخل جمهور المؤمنين بالله من مسلمين ومسيحيين وصارت احتفالاتهم مشتركة وظهرت فيها تقاليد شعبية إسلامية ومسيحية، كان منها ماري جرجس بحصانه والعذراء بتاجها، وفي مناسبة ذكري ميلاد سيد الخلق محمد صلي الله عليه وسلم! ولقد استمر هذا التداخل أو بقيت هذه التضفيرة آمادًا طويلة من الزمن، وعرف الناس في مصر الاحتفالات المشتركة بماري جرجس وبمحمد بن أبي بكر الصديق في أسبوع واحد هناك في ميت دمسيس!، وعرفوا أيضا الذهاب مسلمين مع مسيحيين إلي مولد العذراء في جبل الطير، وللاحتفال في جبل قسقام بالقرب من القوصية عند الدير المحرق حيث توجد الكنيسة الوحيدة في العالم التي كرسها أو كرزها أو دشنها واعتمدها السيد المسيح بنفسه، عندما كان طفلاً بمعية أمه وأرقدته علي حجر لتغير له ملابسه، وبقيت هذه الكنيسة وفيها هذا الحجر إلي هذه اللحظة وكان لي حظ الدخول إليها. ولقد كانت الأديرة في أعماق الصحراوات المصرية والعربية مأوي للمقاومين للاحتلال الروماني، وملاذًا للعابرين يجدون فيه المأوي والطعام والشراب بصرف النظر عن ديانتهم وهويتهم، وبقيت كذلك! إنها تضفيرة مصرية فذة تقودنا إلي تضفيرة أخري كان للحاكم بأمر الله دور فيها أيضا، فإلي لقاء.