تنمية الثقافة السياسية أو تطويرها قضية مهمة لبناء أي نظام ديمقراطي, وهي أكثر أهمية في مراحل التحول. وإذا أردنا أن نوجه هذه العملية أو نتحكم فيها علينا أن نفهم مكنون العوامل التي تؤثر فيها إن سلبا أو إيجابا; فنعظم ماله دور إيجابي ونقلص من سطوة السلبيات. تقليديا ثمة اتفاق علي أن وسائل الإعلام والأحزاب والمؤسسات التعليمية ودور العبادة. وربما منظمات المجتمع المدني الأخري هي التي تتولي هذه المهمة... وهذا صحيح علي المدي الطويل, لكن هناك عوامل سريعة التأثير; وبالتالي فالتعويل عليها يعد أكثر جدوي. وإن تكن القيم والاتجاهات التي تتشكل لدي المواطنين إزاء السلطة هي جوهر الثقافة السياسية; فإن ذلك يعني عدة أمور: الأمر الأول هو أن هذه الثقافة تصير أكثر عرضة للتبدل والتغير في لحظات التحول السياسي برغم ما يعرف عنها من الثبات النسبي والذي يستلزم وقتا طويلا لتغييرها. الأمر الثاني هو أن الممارسات السياسية من جانب مؤسسات الحكم أو من جانب النخب السياسية يتعاظم تأثيرها في الثقافة السياسية قياسا إلي الأدوار التثقيفية أو التوجيهية التي يمارسها الإعلام أو تديرها الأحزاب أو قوي المجتمع المدني, ونتحدث- هنا- يقينا عن حدة هذا التأثير وسرعته. أما الأمر الثالث فهو أن أوجه التأثير السريع في الثقافة السياسية تنصرف إلي أهم مفردتين من مفرداتها وأقصد بهما تشكيل الوعي السياسي للمواطن من ناحية وتدشين رغبته في الممارسة السياسية وقدرته عليها من ناحية أخري; فالمواطن يشارك عندما يري لمشاركته جدوي, وهو يختار في ذلك الوسيلة التي يراها أكثر جدوي! إذا ترجمنا هاتين المفردتين إلي قيم واتجاهات سوف نتأكد من أن قيمة الثقة في عالم السياسة هي القيمة الكبري التي تصيغ سلوك المواطنين, والثقة لا تقتصر علي النخبة أو علي مؤسسات الحكم وإنما تمتد إلي السياسات والنظم والآليات والمواقف والخطاب العام. ولعل ما حدث منذ بداية الثورة وحتي الآن يعزز هذه المقولة; فقد رأينا في الأيام الأولي للثورة أروع أشكال السلوك السياسي وأكثرها تحضرا, وبعد أن تبين للجماهير أن هناك نخبا تتصارع وتبحث عن مصالحها الخاصة في تجاهل تام للمصلحة العامة أو تغافل عنه تبدت لدي المصريين أسوأ أشكال الانتهازية وشرع كل فرد كما شرعت كل جماعة في البحث عن استفادتها الخاصة كل بطريقته الخاصة أيضا. في المرحلة الأولي ارتفع مستوي الثقة السياسية إلي أبعد حد ممكن بفعل الثورة أو بفضلها, وفي المرحلة الثانية تردي مستوي الثقة إلي أدني معدلاتها. في تقديري أن الفترة القادمة سوف تعيد صياغة هذه القيمة للمرة الثالثة, وأن هذه الصياغة سوف تظل باقية لفترة غير قصيرة. وسوف يتوقف ذلك بدرجة كبيرة علي كيفية إدارة معارك ثلاث أعتقد أننا مقبلون عليها وعلي مدي النجاح فيها. المعركة الأولي هي معركة الاقتصاد وهي حساسة في بناء الثقة وتعزيزها أو هدم جدارها; فاخفاء الحقائق الاقتصادية عن الجماهير سوف يقلص مستوي هذه الثقة في مؤسسة الحكم, وفي نفس الوقت فإن المصارحة مالم تكن محسوبة وعلي قدر من الوعي قد يترتب عليها فقدان الثقة في الأوضاع والسياسات. ونفس المنطق يسري علي كل جوانب المعالجات الاقتصادية; فكل سياسة اقتصادية تظل سيفا ذا حدين حتي تؤتي ثمارها. المعركة الثانية هي المعركة القانونية القضائية, ولها شقان: الشق الأول هو الملاحقة القانونية للسياسات والتشريعات التي تتخذها مؤسسات الحكم والتي لاتروق لقوي المعارضة, وربما تلحق هذه المطاردات القانونية بأشخاص من النخبة علي الجانبين. والشق الثاني هو التخوف من احتمال دخول القضاء طرفا في معركة من نوع تصفية الحسابات. وفي الحالتين ليس هناك إلا معني واحد سوف يستقر في ضمير المواطن; وهو افتقاد الثقة في كل الآليات السياسية وأن تصبح مصائر الأمور معلقة في ساحات القضاء, وأن تصبح الأداة القانونية هي الأداة الوحيدة لتسيير مناحي الحياة, وأن تصبح المحكمة هي الجهة الوحيدة التي يناط بها حسم التناقضات السياسية كبديل عن الديمقراطية وآلياتها. البديل الآخر لهذا البديل السابق يتمثل فيما قد تسفر عنه المعركة الثالثة وهي المعركة السياسية والتي سوف يدور رحاها بين الحكم والمعارضة في عدد من الساحات السياسية تعد الانتخابات مجرد واحدة منها. ما أقصده- هنا- تحديدا هو أن يستغل البعض حقيقة الإرادة الشعبية- التي بلورتها الثورة- في تعطيل مسار العمل السياسي من خلال التظاهر في الميادين والاعتصامات وفرض الحصار مما يعطي رسالة للمواطن بأن أسلوب لي الذراع هو الأجدي في تحقيق المطالب. المزيد من مقالات د.صلاح سالم زرنوقة