في مقال سابق تحدثت عن مقترح للمشروع الوطني المأمول بوصفه المشترك الجامع الذي يمثل الحد الأدني من الاتفاق الوطني العام, وبصفته يعني تحقيق التنمية كغاية كبري. وأتحدث- هنا- عن مجموعتين من الضوابط أو الشروط, أتحدث عنهما بلغة المسافات التي قد نتمكن من إيجاد أدوات لقياسها مع التقدم في التحليل. المجموعة الأولي ينبغي أن تتسع فيها المسافات بمعني أن يكون هناك فصل واضح وتام بين طرفيها, وأول شرط فيها هو ضرورة الفصل التام والواضح بين العام والخاص, والخاص معروف ونضعه تحت الملكية الخاصة, والمصلحة الخاصة, والحرمة الخاصة, والعام معروف أيضا, لكنه لا يقتصر علي الوظيفة العامة كما قد يتصور البعض, وإنما يشمل المرفق العام, والمال العام, والخدمة العامة, والنظام العام, والذوق العام, والثقافة العامة.. وما شاكل ذلك. أعتقد أن عدم الفصل بين العام والخاص هو جوهر الفساد, وأن الفصل بينهما يعني تلقائيا مكافحة هذا الفساد, لكن ليس وفقا لتعريفه التقليدي من حيث هو استغلال السلطة أو الوظيفة العامة لتحقيق منافع خاصة; وإنما في تعريف أوسع وهو إساءة استخدام كل ما هو عام. وقد تحدثنا عن المقصود بالعام, ونضيف أن إساءة الاستخدام تعني- ضمن ما تعني إهدار الموارد أو العبث بها أيضا. الشرط الثاني هو الفصل الواضح بين الدولة والحكومة, وذلك بما يعني استقلالية الدولة بجميع مؤسساتها عن الحكومة. أشير هنا إلي الدولة القوية والديمقراطية والمدنية في الوقت نفسه. أما الشرط الثالث في هذه المجموعة فهو ضرورة الفصل بين السياسي والاجتماعي; فلا يجوز تسييس التعليم أو القضاء أو الإعلام أو الدين أو العمل الأهلي, وحتي الاقتصاد لايجوز تسييسه في معني من المعاني. والواقع أن جزءا كبيرا من عوار النظام السابق هو تسييس جميع هذه المجالات, وفي الوقت نفسه وللمفارقة نزع السياسة من موطنها الأصلي; خذ مثلا علي ذلك الانتخابات التي تحولت إلي نشاط اجتماعي يقوم علي الروابط الشخصية والعائلية والجهوية وتقديم الخدمات وتوظيف الدين... دون أي ملمح سياسي! المجموعة الثانية من الشروط عكس الأولي من حيث المسافات; ففيها ينبغي إلغاء المسافات تماما إلي حد الدمج. والشرط الأول هو أن تضيق المسافة تماما حتي تتلاشي بين الشرعية والمشروعية, والشرعية هي ما يرتضيه الناس, والمشروعية هي ما تمليه القواعد القانونية; أي أن تعبر القوانين عما يريده عامة الناس فعلا. ولا ريب أن ذلك ينطوي علي ضمان سيادة القانون لعدة أسباب; منها أن التطابق بينهما يعني أن القوانين تعبر عن مصالح الناس وواقعهم ومن ثم لن يفكر كثيرون في الهروب منها أو التحايل عليها. ومنها أن تكلفة مخالفة القانون سوف تكون أعلي من تكلفة الالتزام به, وبنفس المنطق سوف يكون عائد الالتزام بالقوانين أعلي من عائد الخروج عليها. ومنها كذلك أنه لن يكون أحد فوق القانون لأنه لن يستطيع أن يخلق شرعية دون غطاء من المشروعية. وحتي لا يلتبس الأمر أضرب مثلا بالتهرب من الضرائب, أو بالتهرب من قوانين الإيجار في المساكن من جانب المؤجر والمستأجر معا والاتفاق علي الخلو. السوق السوداء في السلع والخدمات تندرج بشكل أو بآخر تحت هذا الباب. الشرط الثاني في هذه المجموعة الثانية هو أن تضيق المسافة بين النخبة والجماهير, وأقصد كل أقسام النخبة: السياسية والحزبية والمالية والعلمية والفنية, كما أقصد كل أوساط الجماهير; فانفصال النخبة عن الجماهير وتعاليها عليها, يعزلها عن هموم الناس ويفقدها القدرة علي تلبية مطالبها, ويحرمها من ثقة الجماهير فيها. أما الشرط الثالث فهو أن تضيق المسافة جدا بين الأمن السياسي والأمن العام بحيث يتحول جهاز الأمن من حماية النظام إلي مهمته الحقيقية وهي حماية الأمن العام, وبحيث يصبح أمن النظام وأمن الحاكم مكفولا بشكل تلقائي; فالمواطن الذي يشعر بالأمن هو نفسه الذي سوف يكون حريصا علي بقاء النظام ومن علي رأسه. يجب تذكير القارئ بأن هذا الطرح يتناول المشروع الوطني من زاوية منهجية, تتعلق بكيف وليس بماذا؟ بمعني آخر هو يضع آليات الحلول وليس الحلول ذاتها, وهي مسألة تستلهم الاستمرارية والقدرة علي مواجهة المشكلات عندما تتجدد أو تعاود الظهور, وذلك علي غرار المثل القائل لاتعطني سمكة... علمني كيف اصطاد السمك. ويجب التذكير أيضا بأن هذا الطرح يثير في الذهن قضايا عديدة ربما تحتاج إلي توضيح قد يتم في وقت لاحق حيث التفصيل بعد الإيجاز. المزيد من مقالات د.صلاح سالم زرنوقة