في غياب مشروع وطني لا يمكن أن نتوقع حلولا لمشاكلنا العويصة والمتراكمة, ولايمكن أن نتوقع بناء نظام جديد علي النحو المأمول, ولايمكن تحقيق أهداف الثورة ولا مطالب الجماهير, ولا إنجاز النهضة أو التنمية المنشودة. أعني بذلك أن المشروع الوطني هو المفتاح, وهو المنطلق, وهو الضابط لحركة قوي المجتمع والدولة ووضعها علي الطريق الصحيح وتعظيم جدواها وثمارها والمشروع الوطني ليس مجرد شعارات براقة أو عبارات إنشائية بليغة, وإنما هو رؤية متكاملة قابلة للتطبيق; ومن ثم فهو الرؤية الاستراتيجية التي أشار إليها أستاذنا السيد يس في عديد من مقالاته, وهو الخطوط العريضة والمبادئ العامة التي تحدد الغايات الكبري للمجتمع والمصالح العليا للوطن وكيفية تحقيقها, وهو التوجهات الأساسية التي ترسم لنا طريق النهضة. المشروع الوطني بهذا المعني هو المشترك الجامع الذي يمثل الحد الأدني من الاتفاق العام بين كل شرائح الأمة وأطيافها, والذي يجب أن نلتف حوله جميعا ونتوحد. وفي الوقت نفسه يجب أن نختلف حول وسائل تحقيقه, وأدوات حمايته, وكيفية المضي به قدما, وهنا تتسع المساحة للتعددية السياسية والفكرية بكل أطيافها, لكن في إطار من الوحدة, ولعل هذا المسلك هو حجر الزاوية في بناء هذا البلد, وفي ضوء هذا الطرح أظن أن المشروع الوطني المطلوب هو قضية منهج بالضرورة وليس قضية موضوع كما يظنه كثيرون, وأظنه كذلك استلهاما لتاريخنا والجغرافيا, ودرسا مستفادا من أخطاء الماضي, كما أظنه تعبيرا عن روح مصر وتجسيدا لخصوصيتها المعهودة, ثم إنني أظنه ترجمة صادقة لشعارات ثورتنا المجيدة ومطالبها. لتكن بداية الفكرة أن المشروع الوطني هو الترشيد من أجل تحقيق النهضة أو سمه ما شئت. لكن المهم هو أن الترشيد يعني أفضل استغلال للموارد, وأفضل توزيع لها, هنا قد يري البعض أن كلمة أفضل تنطوي علي أحكام قيمية غير قابلة للتطبيق, لكنني سوف أضع لها معايير قابلة للقياس. وبالمثل قد يري البعض الآخر أن الموارد مقصورة علي مجالي المال والاقتصاد فقط, وليس بمقدوري في هذا المقال أن أقدم حصرا لكل الموارد, ولكنني سوف أضرب مجرد أمثلة توضيحية يمكن القياس عليها, وبقليل من التفصيل أقول إن الموارد تشمل كل الإمكانات المادية والمعنوية; فإلي جانب الموارد الاقتصادية المعروفة, هناك موارد سياسية, فالدولة القوية مورد, وقدرتها علي التغلغل مورد, وكذلك سيادتها وأمنها القومي ومكانتها الدولية, أيضا نعتبر الديمقراطية والحريات العامة موارد سياسية. وهناك موارد بشرية ليس فقط نوعيات البشر وقدراتهم وصحتهم وتعليمهم وأمنهم ودخولهم ومستويات معيشتهم وإنتاجهم واستهلاكهم, وإنما أيضا حتي توزيعهم علي الرقعة الموجودة. هناك موارد اجتماعية كالقوي والتنظيمات والتكوينات الاجتماعية, والتماسك الاجتماعي, والنظام العام والآداب, والأخلاق العامة, والقيم الدينية, وهناك موارد ثقافية كتراث مصر الحضاري وسجلها التاريخي... ليس فقط آثارها ومعالمها التاريخية الفرعونية والرومانية والإسلامية, ولكن أيضا سجلها في المحافل الدولية وفي الإعلام, ومدارسها الوطنية في الدبلوماسية وفي الري وفي الإدارة والفن وفي الفكر وفي العلم والثقافة. وعلي نفس القياس هناك موارد تشريعية وأخري إدارية, والبيئة مورد وموقع مصر مورد.. إلي آخره. مرة أخري لن أستطيع حصر الموارد المقصودة, لكنني في انتظار من يقول لي إن هناك قيمة أو خدمة أو نشاطا أو نظاما أو قطاعا أو مشكلة أو قضية أو مطلبا يمكن اعتباره خارج دائرة الموارد بمعناها الذي قصدت. أفضل استغلال يعني أمورا محددة; فهو يعني أولا: تسخير هذه الموارد فيما خصصت له, سواء كان هذا التخصيص بحكم القانون, أو بحتمية طبيعة هذه الموارد, ويعني ثانيا: كفاءة الاستخدام أي أن تعطي أكبر عائد بأقل تكلفة, ويعني ثالثا: صيانتها من التلف أو النفاد أو الإهدار أو تغيير طبيعتها. أيضا قد يري البعض أن هذه المؤشرات قد لاتنطبق علي كل الموارد خصوصا الشق المعنوي منها, والحقيقة أنها تنطبق: خذ مثلا قيمة التجانس الثقافي أو التماسك الاجتماعي أو منظومة القيم أو الذوق العام أو تاريخ مصر وعد إلي معاني الاستغلال الأفضل تجد أنها بحاجة إليها, بحاجة إلي استخدامها فيما خصصت له وكفاءة استثمارها بحيث تعطي أكبر عائد بأقل تكلفة, وبحاجة إلي صيانتها من العبث بها أو تغيير طبيعتها. أما أفضل توزيع فيشير في كلمة واحدة إلي عدالة التوزيع, عدالة التوزيع بين الأقاليم المختلفة, ثم بين القطاعات والأنشطة المختلفة, ثم بين الأفراد علي جميع المستويات. وللعدالة ضوابط ومقاييس أو مؤشرات أولها: أن يحصل كل شخص علي ما يستحق قدر جهده النوعي وقدر مساهمته في الصالح العام, وثانيها: ضمان حد أدني من الكفاف للجميع. وثالثها: أن تتقارب قدرات الفقراء والأغنياء علي الكسب ولعل الوجه الآخر لهذا المؤشر الثالث هو ألا تتاح الفرصة للمال أو النفوذ في تحقيق مكاسب كبيرة مقارنة بمن يقدم جهدا, ورابعها: ألا يحصل أحد علي عائد دون جهد, وألا يحرم مجتهد من ثمرة عمله. ما أريد توصيله للقارئ- هنا- هو أن العدالة تستلزم نظاما اقتصاديا معينا وبنية تشريعية محددة; فالنظام الاقتصادي الذي يسكب الربح علي من يملكون المال( الفلوس تجيب فلوس) أو النفوذ أو من يتلاعبون بالأذواق أو من يصنعون الطلب هو نظام فاشل أو علي الأقل لايناسبنا, ولنتذكر في هذا المقام أن كل قرار يصدر من مسئول هو في النهاية قرار توزيعي بحكم منطق الأمور, فهو بمثابة إعادة توزيع للفرص والسلع والخدمات والقيم, ولا ننسي أن القوانين والتشريعات تدخل ضمن دائرة القرار في معناه العلمي الصارم. هذا الطرح يعود بنا إلي أصول علمي الاقتصاد والسياسة; فالاقتصاد معني بأفضل استغلال للموارد, والسياسة معنية بأفضل توزيع لها. وهو يجسد أيضا أهداف الثورة, فالعيش والحرية نجدهما في الشق المتعلق بأفضل استغلال للموارد, والكرامة والعدالة الاجتماعية نجدهما في الشق المرتبط بأفضل توزيع لها, وهذا الطرح يستفيد من خبرة الماضي البائس, ويستوعب مفهوم الأمن القومي, كما يسمح باختلاف القوي السياسية وتنافسها في كيفية التطبيق. وأخيرا فإن هذا الطرح ليس إلا مجرد مقدمة لفتح باب الحوار حول هذا الموضوع المهم. أستاذ العلوم السياسية جامعة القاهرة المزيد من مقالات د.صلاح سالم زرنوقة