العدالة الاجتماعية قضية حيوية وخطيرة, بوصفها أحد أهداف ثورة25 يناير المجيدة, ثم بصفتها أهم وظائف النظام السياسي; فأحد تعريفات علم السياسة أنه علم التخصيص السلطوي للقيم والتخصيص يشير في معناه البسيط إلي التوزيع, والقيم تعني الفرص والخدمات والسلع. من هنا كانت أزمة التوزيع هي أكبر أزمات النظم السياسية الفاشلة, بمثل ماكانت دائما في مقدمة أسباب سقوط هذه النظم, ولنفس السبب لم يكن مستغربا أن تفصح عنها عبقرية الثورة وتضعها ضمن مطالبها. والعدالة بصفة عامة قيمة كبري في الحياة السياسية, ومن ثم كان العدل أساس الملك, وكان من العبث أن نتصور نجاح أي بناء سياسي دون أن تكون العدالة ركيزته الأساسية. ومعني ذلك أن مهمة الرئيس الدكتور محمد مرسي في تحقيق هذا الهدف من أهداف الثورة ينبغي أن تحظي بمكانة متقدمة في سلم الأولويات, وأن تكون محورا لمنظومة متكاملة من الترتيبات السياسية والاقتصادية والتشريعية وليست مجرد حزمة من الاجراءات. بعبارة أخري إذا كان هناك من يفهم أن تحقيق العدالة الاجتماعية هو أن نقتطع جزءا من دخول الأغنياء وثرواتهم لنسديه إلي الفقراء أو نسدده لمحدودي الدخل, فذلك فهم ساذج وسقيم; فالمسألة ليست أن نأخذ حرفيا من الأغنياء, كما أنها ليست أن نعطف علي الفقراء أو أن نمارس الإحسان تجاههم... رغم أن كليهما وارد بطبيعة الحال, لكن ليس في مجال السياسة وإعادة بناء النظم. المسألة أعمق من ذلك; فالعدالة الاجتماعية تعني تضييق الفجوة بين الأغنياء والفقراء وأن يأخذ كل مواطن ما يستحق; بمعني أن يتناسب دخل المواطن مع جهده النوعي وما يقدمه للمجتمع. هذا التناسب الذي افتقدناه منذ زمن طويل والذي رتب اختلالات جذرية في البناء الاجتماعي وفي الثقافة العامة بل وانعكس علي الشخصية المصرية. لقد شهدنا كل أشكال عدم التناسب المذكور في جميع القطاعات والأنشطة والميادين, وكان التفاوت في الدخول من الوظائف الحكومية في القطاع الواحد ربما هو أبسط أشكال هذه الآفة. والحالة من عدم التناسب بين دخل المواطن وجهده النوعي سوف نجدها في غاية التردي عندما نقارن بين القطاعات المختلفة أو بين المهن المختلفة. وتعني العدالة أيضا إعادة الاعتبار لمبدأ مهم نراه قد اختفي من حياتنا وهو من جد وجد وهو ليس مجرد شعار, وإنما واقع تمليه تركيبة ظروف الحياة, لقد أملت ظروف المرحلة السابقة عكس هذا المبدأ; فقد وجدنا أن من يجد قد لايجد, وفي نفس الوقت أن من لايكد قد يجد. وهنا نتساءل كيف يتعب الإنسان ويكد ثم لايجد حصيلة عرقه أو عائد جهده, وكيف بإنسان آخر يحصل علي عائد كبير دون مشقة أو تعب أو عناء. هنا ينبغي أن نتذكر أهمية أن يوضع كل شخص في المكان المناسب له وفق تأهيله وقدراته, وهو ما يعني أننا نتحدث عن سلامة معايير الاختيار أو التجنيد للوظائف والمهام المختلفة, بل وعن أهمية حسن استغلال الموارد البشرية. تحقيق العدالة الاجتماعية يعني أن تزال العقبات أمام كل نشاط جاد اقتصاديا ومشروع قانونا وأخلاقيا, وأن يجابه بكل حزم من يمارس نشاطا مخالفا للقانون والأخلاق وقواعد الاقتصاد الرشيد. لقد تهيأت الفرص لتجار المخدرات وممارسي الغش وتهريب السلع, وأغلقت الأبواب في وجه كل من يزاول عملا شريفا, ووضعت العراقيل أمام أصحاب المشروعات الصغيرة وفتحت الأبواب لأصحاب الاحتكارات الكبيرة. من البديهي أن يكون الفساد جذرا مشتركا بين هذه الأبعاد السابقة; فما هي إلا فيروسات من فصيلة آفة واحدة هي آفة الفساد. ولا أقصد بالفساد الرشاوي أو اختلاس الأموال فذلك جزء منه فقط. بعبارة أخري لا أقصد هذه الممارسات التي تخالف القوانين بشكل صريح; وإنما أقصد مايتم في إطار قانوني من إساءة استخدام كل ما هو عام وليس السلطة فقط, ويصدق وصف العام علي الوظيفة العامة والمرافق العامة والمال العام والملكية العامة والرأي العام والذوق العام والأخلاق العامة والثقافة العامة.. الخ. وإساءة الاستخدام تشير إلي إهدارها دون رشد, أو توجيهها لغير ما خصصت له, أو تغيير طبيعتها, أو تعريضها للتلف أو النفاد. ومن ثم فإن معالجة الفساد بالتشريعات والأجهزة الرقابية لاتكفي للقضاء عليه ولا تكفي لتحقيق العدالة الاجتماعية, وإنما يحتاج الأمر إلي منظومة تشريعية وبنية اقتصادية وهياكل إدارية تحقق الأبعاد الأربعة المذكورة للعدالة الاجتماعية. المزيد من مقالات د.صلاح سالم زرنوقة