تركيبة أدبية عجيبة تلك التى تلمسها فى شخصية الروائى السكندرى سعيد سالم .. فهو الروائى المهندس الكيميائى صاحب الحكايات و القصص القصيرة و الروايات و المقالات النقدية .. و هو أيضا من مر بانكسارات مٌرة فى حياته لم تثنه عن أن يكون مصدرا يشع البهجة و النور و التفاؤل و الحب فى أعماله على لسان أبطاله. الأهرام اختارت أن تجرى معه الحوار التالى بوصفه واحدا من عشرات و ربما مئات الأدباء من أبناء محافظات مصر و قراها و نجوعها الذين توارت أسماؤهم فى ظل زحام القاهرة و مركزيتها و لم تنل ما تستحقه من الشهرة . .............................................. بعد ثورة الخامس و العشرين من يناير أصبت «بسكتة كتابية» .. ما السبب و أنت تعتبر نفسك من أحد أهم المحرضين عليها فى رواياتك و أعمالك معجزة الثورة أفقدتنى الرغبة فى الكتابة الروائية أو القصصية نهائيا، بعد أن شعرت أن أقصى أمانى حياتى قد تحققت ، وأننى لا أرغب بحق فى الكتابة الابداعية ، فضلا عن أننى كنت أفتقد تماما وجود فكرة ملحة تدفعنى الى التفكير فى الكتابة وقتئذ ، فتفرغت لتجميع الأحداث والمقالات والفيديوهات المتعلقة بأحداث الثورة منذ 25 يناير ولمدة مايقرب من شهر، وسجلتها على سى دى أهديته لبعض الأصدقاء وحفظته بملف إلكترونى بعنوان الثورة فى جهازى، وملف مطبوع فى مجلد خاص، استعنت به فى مشروع الفنان الصديق عصمت داوستاشى والمعروف بمشروع «معرض فى كتاب». ثم أمضيت عاما كاملا فى كتابة مقالات نقدية عن كتاب الاسكندرية الذين تعرضوا فى كتاباتهم للثورة من قبل قيامها. لقد قامت أعمالى الروائية بوجه عام ،و الثلاثة الأخيرة، بوجه خاص،: «الشىء الآخر والمقلب والحب والزمن» على طرح أشكال الفساد والانهيار الشامل لكل أحوال البلاد، وعجز الشعب عن مواجهة دنس السلطة الطاغية المستبدة، ورضوخه لسطوتها وجبروتها وقهرها، واستسلامه لليأس والتخاذل وأحلام اليقظة، والاكتفاء بالدعاء إلى الله.. هذا ما أدعيه، وهو تقريبًا ما قاله النقاد فى دراساتهم المنشورة عن هذه الأعمال. ولما قامت الثورة على غير توقعى شعرت بأنه لم يعد هناك أمامى مبرر للكتابة وقد تحقق حلمى الأكبر بثورة الشعب. بالطبع لم يستمر هذا الشعور بالسكتة الكتابية طويلا ، إذ مالبثت أن عدت الى الكتابة من جديد وقد اتخذت كتاباتى طابعا انسانيا عاما أعتقد انه اختلف عما سبق كثيرا. بعد الحب والزمن كتبت الكشف والفصل والوصل واسترسال وقصة حب مصرية ومذكرات فتاة لم تعثر على عريس واخيرا صعاليك الانفوشى. و هل أنت راض عن ما آلت إليه ثورة يناير اليوم ؟ ... و ماذا تريد أن تكتب مرة أخرى عنها؟ للأسف ما كنت أنتظر أبدا ما وصلنا اليه من فوضى وارتباك وفساد رغم قيام ثورتين لا ثورة واحدة. كان الشباب فى بدايات الثورة الأولى يكنسون الشوارع وينشرون اعلانات تحث على عدم تقاضى الرشوة واحترام المرور والقيام لكبار السن فى الترام، كما كثرت المناداة بحرية الرأى واحترام الآخر . كانت ابتسامة الأمل والتفاؤل على شفاه الجميع ، وكأن الشعب كله قد تحول الى كيان واحد لايتجزأ. ثم خطف الاخوان الارهابيون الثورة وعاش شعب مصر أسوأ سنواته. وسلم الجاسوس سيناء للارهابيين والقتلة والمجرمين بعد أن أفرج عنهم من السجون ، وأعطى لنفسه النياشين والأوسمة وترك البلاد لعبة فى أيدى الجماعة ومرشدهم، فكثرت الأزمات وأصبح الناس يتقاتلون على رغيف الخبز وأنبوبة البوتاجاز، وصارت الكهرباء والمياه تنقطع معظم الأيام، وارتبكت العلاقة بين الشعب والشرطة بعد أن كانت قد استعادت عافيتها، وراح الجاسوس الحاكم يقسم ويبيع فى أرض مصر التى لايعترف بها كوطن ولا يقوم احتراما لسلامها الوطنى طبقا لشريعة قبيلته الظلامية المتخلفة. ثم قامت ثورة 30 يونيو وعاد الأمل من جديد. بدأ الاصلاح وبدأت المشروعات وبدأت الأزمات التقليدية فى الانفراج وعلى رأسها أزمة الدعم، مثلما استعادت مصر سمعتها وقيمتها الدولية من بعد انهيار. اجتهدت كثيرا فى أن تثير القضايا المسكوت عنها على لسان أبطال روياتك بجرأة غير معهودة.. هل جلب ذلك لك اللوم بشكل أو بآخر من أى جهة؟ فى يونيو 2007 نشرت رواية الحب والزمن على حلقات مسلسلة بجريدة الدستورالمصرية، و لايمكن أن أنسى توسلات زوجتى ألا أنشرها، محذرة إياى من السجن والضرب والتعذيب، حيث كانت سلطات الأمن التى لاتعمل الا فى خدمة الرئيس وأسرته فى حالة سعار جنونى ضد الفكر والمفكرين والكتاب المعارضين الأحرار، وحيث كانت حالتى الصحية فى الحضيض على أثر جلطة حادة بالقلب داهمتنى بمجرد الانتهاء من كتابة الرواية..كان ردى عليها بالحرف الواحد: أموت وتنشر هذه الرواية؛ لأنها لو لم تنشر الآن سأموت بالفعل! ثم أعطيتها كشفا بمجموعة أسماء من أصدقائى الصحفيين الأحرار، مازلت أحتفظ به حتى اليوم، طالبا منها الاتصال بهم بعد اعتقالى، لإعلان الخبر على الرأى العام. بصراحة لقد أستفدت من جهل القائمين على السلطة حينئذ وعدم تعودهم على متابعة التوجهات الثقافية عن فهم وثقافة، إذ غابت روايتى عنهم لحسن حظى وذلك بفضل الله وستره. وأقول الحق إننى لم اتعرض لأى إيذاء من قبل السلطات عن كل ما كتبت وكأننى – مثل غيرى من المثقفين المبدعين – أنفخ فى قربة مخرومة. كان لليتم المبكر أثرا كبيرا على كتاباتك .. هل لازال هذا الشعور يسيطر عليك بعد كل هذه السنوات من الكتابة القصصية و الإبداعية؟ لقد توفى والدى وأنا فى الثانية والنصف من العمر ، حيث تولت أمى باقتدار عظيم ادارة شئون الأسرة بمساعدة شقيقى الأكبر «كمال» وهى فى الخامسة والعشرين ولم تتزوج مرة ثانية . عشنا نحن الذكور الثلاثة والفتاتين – وكنت أصغرهم سنا - مع أمنا داخل هذه الشقة الفسيحة المكونة من أربعة غرف وصالة كبيرة نسميها الفسحة- بفتح الفاء والسين – ولم يكن لأحدنا غرفة خاصة غير أخى الأكبر. أما أنا فأذكر جيدا أننى كنت أنام فى حضن أمى . بسبب غياب الأب لم يكن هناك من يجيب على تساؤلاتى الحيرى الكثيرة فى طفولتى والناتجة عن عشقى الشديد للتأمل والتفكير فى معضلات أكبر من سنى كالحب والرزق والسعادة والموت وغيرها ، فكان أن لجأت للقراءة من صغرى عسيا بالعثور فيها على الاجابة. وفى بداية الشباب كنت أكتب ما يشبه المذكرات التأملية والتى تحولت بالتدريج الى القصة فالرواية، وكان أول من علق على أعمالى الأولى نجيب محفوظ ويوسف ادريس مما جعلنى أشعر بفداحة مسئولية الكتابة. بمرور الزمن تضاءل هذا الشعور بالطبع، خاصة وأن ظروف حياتى كلها قامت – بدون مبالغة – على الحب الذى عوضنى عن كل شئ فى هذه الحياة. احببت أمى وأحببت زوجتى ثم تزوجتها وانجبت منها البنين والبنات والأحفاد الذين غمروا حياتى بالحب. احببت حارتنا وأحببت مدينتى الكوزموبوليتانية العاشقة اسكندرية وبحرها الساحر، وأحببت وطنى الغالى مصر ، واحببت عبد الناصر والسادات والسيسى. وأصبح الشعور بالتفاؤل لمستقبل بلادى طاغيا على مشاعرى، وأحمد الله على أن وهبنى نعمة الابداع التى مازلت أستمتع بها حتى اليوم. كثيرون يتركون مهنتهم الأساسية مهما علا شأنها من أجل الكتابة ، لكنك وجدت علاقة قوية بين التفاعلات الكيميائية و التفاعلات الإنسانية فى الرواية؟ فى لقائى الأول مع نجيب محفوظ بعد أن كتب عن روايتى «بوابة مورو» قبل أن يرانى، سألنى سؤالا محددا: - انت بتشتغل ايه يا سعيد ( بتسكين السين)؟ - مهندس كيمائى فى شركة - يعنى خريج علوم؟ - لا.انا ماجستير هندسة كيمائية - الحمد لله تعجبت من اجابته لكنه أوضح لى المسألة بقوله: - اياك أن يغريك الأدب بترك وظيفتك. أنا بقيت موظفا حتى احلت الى المعاش والأدب وحده لايكفى دخله لتعيش حياة كريمة. والتزمت بنصيحته حتى أحلت فعلا الى المعاش بل إننى واصلت العمل كمستشار فنى بنفس الشركة لمدة ثمانى سنوات بعد المعاش لارتباطى بتنفيذ مشروع صناعى كنت مديرا له. بعد ذلك تفرغت للكتابة فازداد نشاطى بشكل ملحوظ ونشرت العديد من الاعمال، الأمر الذى لم يكن متاحا لى من قبل.. والحقيقة أننى استفدت كثيرا من دراستى للهندسة الكيمائية فى مجال القصة والرواية فهناك عوامل مشتركة عديدة بين الرواية والقصة من جهة وبين الكيمياء من جهة أخرى وأهمها التفاعل والتحليل والتركيز والتكثيف، فكلها خواص كيمائية وروائية فى الوقت نفسه. أى من قصصك حلمت بتحويلها إلى عمل سينمائى ضخم؟ حظى سيئ جدا مع السينما..1 - حسن الامام اعجب ببوابة مورو ودعانى الى فيلته بالمعمورة ليخبرنى أنه سيحولها الى فيلم بطولة محمود المليجى، ثم مات قبل أن ينفذ وعده.. 2 - الدكتور محمد كامل القليوبى أدمج رواية بوابة مورو فى رواية جلامبو كرواية واحدة وقرر أن يكتب لها السيناريو ويخرجها، ولم يحدث ذلك حتى توفى..3 - هانى لاشين تعاقد معى على انتاج رواية الأزمنة وتقاضيت عنها عربونا لكنها لم تنفذ.. 4 - ايناس الدغيدى اشترت منى كف مريم واتفقنا مع الدكتور رفيق الصبان على كتابة السيناريو ، لكن الفتنة الطائفية اشتعلت بين المسلمين والمسيحيين وكان ذلك فى أواخر التسعينيات فتعذر انتاج الفيلم خشية من عواقبه على المخرجة والمؤلف من قبل المتطرفين. لذلك لجأت الى التليفزيون فكتبت سيناريو وحوار لروايتى «عاليها واطيها» من انتاج صوت القاهرة وأذيع أكثر من مرة عام 2008 و 2009 ، ثم حولت رواية المقلب الى مسلسل تليفزيونى وافق عليه قطاع الانتاج ومازال محتجزا لديهم منذ عام 2011 بسبب ظروف القطاع المالية حسبما يقولون، وهو يناقش مشكلة القمامة فى مصر والعاملين بها. عموما أنا مازلت أعتقد أن كف مريم صالحة لأن تكون فيلما يعالج كثيرا من القضايا الوطنية المتعلقة بعلاقة المسلمين بالمسيحيين فى مصر. وأخيرا فإنى أرشح آخر اعمالى وهى رواية «قصة حب مصرية» التى صدرت الشهر الماضى عن روايات الهلال لتكون فيلما رومانسيا رائعا ينشلنا بقوة من واقعنا المرير، فضلا عن أنه يعالج مشكلة عاطفية حساسة عندما يحب متزوج متزوجة. مالذى لم تحكه عن نجيب محفوظ بعد؟ لقد سبق لى أن نشرت بعضا من الخطابات التسعة التى أرسلها الى نجيب محفوظ خلال عدة سنوات قبل انتشار النت والكمبيوتر ، ولكن سأختار منها رسالة محددة هى الرسالة رقم 8 . وقصة هذه الرواية أننى تغيبت لفترة طويلة عن حضور جلسات سان استفانو بسبب تواجد بعض الأشخاص من ذوى الميول غير الوطنية التى أزعجتنى وخصوصا أنصار التطبيع، ولما علم من بالسبب الحقيقى بعد أن سأل عنى كثيرا ، بعث الى بهذه الرسالة، وعندما التقينا قال لى ما معناه: - إن البعض ممن يجلسون معنا لايحبون بعضهم بعضا ولكن الحياة لن تسير على هوانا تماما ويجب أن نتحلى بالصبر على معاشرة الجميع ممن نحب وغيرهم.