الصراحة راحة.. فتعالوا نتصارح. إن تعليمنا العام، سواءً بالمدارس أو الجامعات، قد عفا عليه الزمن، ولم يعد يَصلح (بفتح الياء)، ولا يُصلح(بضمها)، ومن ثمّ، فنحن بتنا أحوج ما نكون إلى تعليم جديد مختلف. يعنى جئت بالتايهة يا خىّ، كلنا نعرف ذلك. ماشى. السؤال المنطقى الآن- مادمنا متفقين- هو: وهل نحن قادرون على إبداع تعليم جديد؟ بكل الثقة والاطمئنان نجيب: لأه.. يعنى.. لأه ! ولماذا يا عم المتشائم؟ ببساطة، لأننا لن نحتمل التكلفة الاقتصادية لمثل هذا التعليم المختلف، وبينى وبينك الأرقام. إن لدى سيادتك ما يقرب من 20 مليون تلميذ وطالب فى التعليم الجامعى وما قبل الجامعى. ولديك نحو 81 مليار جنيه مصرى مخصصات التعليم فى الموازنة العامة للدولة. صح؟.. لأ.. غلط! لماذا؟ لأن أغلب هذه ال80 مليار لا يتم إنفاقها على العملية التعليمية، وإنما هى أجور ورواتب للقائمين عليها، يعنى لا تذهب الفلوس للتعليم، بل لأكل العيش. ومع ذلك فإن متوسط تكلفة التلميذ هو 4 آلاف جنيه فعلا، غير أن الذى يدفعها ليس الدولة، بل أولياء الأمور( أكيلة العيش!). إنهم يدفعونها فى صورة مصروفات، ومستلزمات دراسية من كتب وكراسات وملابس ودروس خصوصية.. وغيرها. وكى لا نغرق فى التفاصيل، فإن موازنة الدولة لم تعد تحتمل الإنفاق على تعليم 20 مليونا، وإذنً، فنحن نمارس تمثيلية بايخة، اسمها (كلنا نتعلم)، بينما الحقيقة هى أن أقل القليل منا هم الذين فقط يتعلمون بجد. يا أستاذ.. هذا تعميم خطير.. فأين قرائنك ومستنداتك؟ سأقول لك. اذهب بنفسك وارصد الواقع العملى فى مدارسنا. وعلى فكرة، هذا الواقع يعرفه أولياء الأمور كلهم.. فاسألهم إن شئت. إن المدرسين لا يشرحون شرحا وافيا بالمدرسة، فيضطر التلميذ إلى الذهاب إلى المدرسين فى السناتر والمنازل، وفى الغرف المغلقة بالمدارس ذاتها، ليأخذوا الدرس الخصوصى، ثم يدفعوا(اللى فيه النصيب)، لل «مِس»، أو لل «مِيستر». وطبعا الدرس الخصوصى، لا فيه تعليم ولا يحزنون، بل يذهب إليه التلميذ ليتقى غضبة المدرس عليه فى الفصل، وسعيا لدرجات أعمال السنة. وتكون النتيجة النهائية أن الكثير من التلاميذ يبلغون الصف الثالث الإعدادى، وهم لا يجيدون لا القراءة ولا الكتابة. لا تصدّق؟ إذنً فاسأل أى ولى أمر تلقاه بالطريق، ويكون له ابن أو ابنة فى المدرسة (الحكومية!)، أو إن أحببت، فشاهد ما تدلقه فى وجوهنا برامج التوك شو طوال الليل، عما يدور فى المدارس، من هرج ومرج وشجارات وتهريج، وأقربها تلك الزيارة التى قام بها الدكتور وزير التعليم (بذات نفسه) إلى إحدى المدارس مؤخرا، فلم يجد سوى تلميذين بالمدرسة، أو ثلاثة، وأيضا عندما زار معالى الوزير مدرسة فى دمياط فى الصباح، فإذا بالمدرسة تتحول إلى قاعة أفراح فى المساء والسهرة! وطبعاً، ما خفى كان أعظم، واخطف رجلك إن أردت، إلى واحدة من مدارسنا، بعد الحادية عشرة صباحا، وأراهنك إن لم تجد نص العيال قد قفزوا من فوق السور، كما أراهنك إن وجدت نصف عدد المدرسين مازالوا بالمدرسة، ولم يبلغوا فراراً سعيا إلى السناتر، لزوم الدروس الخصوصية.. ! يعنى ما فيش أمل؟ لا.. هناك أمل.. وإليكم هذا الاقتراح: ما رأيكم- دام فضلكم- فى البدء فى إجراء اكتتاب شعبى، لجمع عشرة مليارات جنيه، يتم بها إنشاء مائة مدرسة حديثة راقية كمدارس خلق الله الذين يتعلمون تعليما بجد (موش كده كده!).. ويكون فى كل مدرسة ألف طالب، من خيرة طلاب مصر، يتوزعون على مراحل التعليم المختلفة.. بحيث يكون هؤلاء المائة ألف بداية لنهضة تعليمية شاملة فى البلد؟ مدارس جديدة؟ نعم يا سيدى، وتكون بها معامل وحدائق وملاعب وحمام سباحة، وغرف موسيقى، وقاعة سينما، وطبعا مسجد وكنيسة، ومناهج مختلفة، ومدرسون أفذاذ يجرى انتقاؤهم على الفرّازة، وأن تكون فى كل مدينة من أكبر مائة مدينة عندنا مدرسة، وطبعا ستقام المدارس على أراضى الدولة( التى نهبها الناهبون وسيتم استردادها إن شاء الله) .. على أن يتم هذا المشروع وفق شروط يتم تنفيذها بمنتهى الصرامة، وحبذا لو كان الإشراف لمؤسسة الرئاسة نفسها، وليس لوزارة التربية والتعليم، التى يكفيها الذى هى فيه، إذ حرام أن نحمّلها عبئا جديدا فوق عبء العشرين مليونا، الذين فى رقبتها.. فما هى تلك الشروط يا ترى؟ أولاً: أن يتم تعيين مجلس حكماء من كبار المستشارين والخبراء، لإدارة المشروع. وثانيا: أن تكون هذه المدارس داخلية، بها إقامة وسكن وتغذية سليمة للتلاميذ، على ألا يزورون أهاليهم إلا كل خميس وجمعة. .. وثالثاً: أن يكون اختيار التلاميذ بناءً على اختبارات ذكاء عالمية( وما أكثرها فى البلدان المتقدمة).. ومن يتجاوز هذه الاختبارات يتم قبوله، حتى لو كان ابن عامل نظافة، بالعند فى المتشامخين بأنوفهم (على الفاضى!). وأما رابعاً: - وهذا هو الأهم- أن يكون ثمة حرص تام على ألا تتدخل «الكوسة»، والواسطة والمحسوبية، أو توصيات البيه المحافظ، أو الباشا مأمور المركز، أو سيادة النائب عضو المجلس الموقر، فى عملية الاختيار. وخامساً: أن يتم إعداد مناهج، على غرار تلك المناهج الموجودة فى إحدى الدول الفائقة التعليم (مثل كوريا الجنوبية، أو اليابان، أو ألمانيا.. وبلاش أمريكا منعاً للحساسيات!). ممكن؟ لأ.. طبعا لا يمكن. ولماذا هذا؟ لأنك تحلم يا عم الذكى، إن مشروعا كهذا، فضلا عن أنه يتطلب إرادة حديدية، ونية صادقة، وعزيمة من فولاذ، فإنه أيضاً، لن ينجو من براثن الفساد المتفشية فينا تفشى الأوهام فى العقول الحالمة. .. ومع ذلك، فإن هذا التعليم المحترم، هو طريقنا الوحيد للنجاة، فلا طريق آخر سواه، للتقدم، بل وللحياة، يا عباد الله. لمزيد من مقالات سمير الشحات