الأهرام: نيافة الأنبا.. نحن هنا الآن بناء على مبادرة من الأستاذ محمد عبد الهادى علام رئيس تحرير الأهرام. وهذه الزيارة للمنيا تحمل عنوانا واحدا هو أن الأهرام- بتاريخه ودوره التنويرى على مدى 140 سنة يرى أن الدولة المصرية سوف تظل دائما ؛ تحمى كل مواطنيها، مسلمين ومسيحيين، وأن الجميع سواسية فى الحقوق والواجبات أمام القانون. تلك هى الرسالة الأساسية التى تقوم عليها تلك المبادرة. ونحن نشكر نيافتكم على هذا اللقاء معنا وأنتم الذين اعترضتم على مقابلة العديدين. الأنبا مكاريوس: إن الأهرام بالنسبة لنا ليست مجرد جريدة نحبها ونحترمها فقط.. بل هى جريدة شاهدة على العصر. وأنا لم أعترض على مقابلة أحد، بل إننى اعتذرت عن عدم مقابلة وفد العائلة المصرية، وذلك كى أبعث برسالة هى أن قضية الكرم لم تنته، وأنا ورائى ناس قد يتهموننى بالتقصير لو أننى فعلت ذلك.. وقد سألتنى «رويترز» قبل قليل.. وقالوا لى أنت رجل دين.. فقلت لهم: إننى مصرى قبل أن أكون رجل دين، لو كانت هذه السيدة لقيت من أجهزة الدولة من يحتويها لما لجأت إلى الكنيسة. وأرجو أن لا تدفع الدولة الناس إلى المسجد، أو إلى الكنيسة، كما أرجو ألا تدفع الدولة بيوت العبادة لأن تكون مؤسسات موازية لمؤسسات الدولة.. وما لم تقم الدولة بدورها فسوف يكون هناك خلل، وستزداد الانتماءات العرقية والدينية. وأريد أن أقول لكم إننى كلما جاءنى شخص يطلب طلبا أقول له ليس قبل أن تذهب أولا إلى المصلحة الحكومية المختصة؛ عاوز اشتغل.. روح دوّر على عمل. عاوز اعمل بطاقة.. روح السجل المدني. عندى مشكلة مع الشرطة.. روح للشرطة وخذ معك محاميا. الأهرام: وكيف ترى نيافتك هذا الحادث.. هل هو يصب فى الناحية الجنائية.. أم الطائفية؟ الأنبا: هو جنائى فيه بعد طائفي. وكى أكون صادقا.. يجب ألا ينتهى الأمر بمجرد الإدانة والشجب والاستنكار والتنديد.. إن مراجعات المسئولين أمر مهم جدا أيا كان نوع المسئولية. فى هذه الواقعة ليس هناك طرفان يحتاجان للمصالحة. إن اقتحام المشهد بدون حكمة أو ترتيب معنا هو الأمر الذي» زعلني». إن الناس الذين تم الاعتداء عليهم يعيشون فى القرية، واتفقنا على أنهم يجب أن يظلوا يعيشون بها، لا تعويضات، ولا مساكن» برّه».. نحن هنا لسنا أمام طرفين مسلم ومسيحي.. إنما هناك ناس تم الاعتداء عليهم، ولابد أن يأخذ القضاء مجراه.. ومافيش متخاصمين ومتصالحين بالقرية.. إنما هناك جناة والقضاء يجب أن يصدر حكمه. خلاص.. الكلمة الآن فى يد القضاء.. وأنا لا أقول مسيحيين ومسلمين. وسيبنا من البعد الديني، لو أن هناك عائلات مسلمة اعتدت على عائلات مسلمة ألن يأخذ القانون مجراه؟ عايز تصلح مين على مين؟ إن موضوع الصلح هو سيناريو مستهلك ولم ينجح فى حل الكثير من المشكلات. الأهرام: ماذا عن العلاج فى الوقت الراهن.. ونحن هنا نتحدث عن تلك الواقعة تحديدا؟ الأنبا: فى الوقت الراهن يجب اتخاذ قرارات ناجزة. المخطئ يتم عقابه حتى يكون فى هذا العقاب ردع لمن يخطئ بعده. والنقطة الثانية أن بقاء بعض المسئولين فى مواقعهم لفترات طويلة ليس فى صالح البلد.. خصوصا عندما تحدث فى منطقته تجاوزات عديدة. إن البقاء فى المنصب يجعل يد المسئول ترتخي. إنه يقول لنفسه: إيه يعنى حادثة.. ما هذا بيحصل كل يوم. ويعنى إيه اغتصاب.. ماهذا موضوع طبيعى ويحدث.. يعنى إيه حرقوا بيت واحد مسيحي.. إنها مجرد فتنة.. وبالتالى يحدث حاجز بين هذا المسئول والناس.. ولازم الدولة تنتبه لهذا الموضوع. إن وجود مجرم اقترف جرما، وأثبتت التحقيقات أنه مجرم، ثم تنتهى القضية من خلال صلح أو تهديد أو ترغيب.. فهذا يجعل النار تتأجج. الأهرام: وماذا عن القوانين الحالية.. هل نحن فى حاجة إلى قوانين جديدة أشد ردعا؟ الأنبا: لا.. إن القوانين الموجودة كافية.. لكن المشكلة هى تطبيق القانون وتفعيله.. نحن أحيانا نتعامل مع الجالس على الكرسى وليس مع القانون. الأهرام: نيافتكم تتحدثون عن موضوع الصلح.. فما رأيكم فى مجالس الصلح والمجالس العرفية أو مجالس العرب كما يسميها البعض؟ الأنبا: أنا لا أؤيد إطلاقا القضاء العرفي.. وإنما أؤيد- بنسبة ما- المجالس العرفية المعنية بالصلح لعلاج البعد المجتمعى للمشكلة.. لكن على ألا يكون ذلك بديلا للقانون. إن المجالس العرفية تكون مقبولة عندما تختارها أطراف المشكلة بإرادتها وليس بتوصية من خارج تلك الأطراف. إن فرض مجالس الصلح من جانب أى جهاز من الدولة فيه إهانة للدولة نفسها.. لكن إذا اختار المجتمع نفسه اللجوء إليها فأهلا وسهلا طبعا. لكن يحدث أحيانا أن يتم إجبار أحد الطرفين( وأنا هنا لا أتحدث عن مسلم ومسيحي) على الجلوس فى جلسات القضاء العرفي، ويتم إجباره على قبول شروط مهينة، أو يضغط عليه بما قد يسمي» فزاعة».. (يقولون له: اصطلح أحسن لك.. أنا أحذرك يجب أن تختار أحد الشرين.. وإلا فأنت حر!) .. وأنا هنا أسأل لماذا لا يكون هناك طرف ثالث بدلا من الشرين؛ طرف» الخير» الذى هو القانون وهيبة الدولة وسيادة الدولة. وإننى أعلم أن الدولة الآن أكثر من أى وقت مضى ترفض أن يوجد بديل لمؤسساتها وقضائها. الأهرام: لقد انتهز بعض المغرضين حادث سيدة الكرم وراحوا يرددون شائعات كثيرة.. كيف يمكن مواجهة هذه الشائعات؟ الأنبا: الشائعات جزء من حياتنا.. لكن الذى يمكننا أن نفعله هو عدم ترك المشكلة تتفاقم.. وطبعا الأمن له دور كبير فى هذا الصدد.. يأتون بمروج الشائعة ويعاقبونه.. لأن الأمن له دور كبير فى ضبط لمجتمع.. وإلى جانب ذلك هناك دور مجتمعي. الأهرام: هل التطرف متجذر فى المنيا؟ الأنبا: أبدا.. وعلى فكرة إن علاقة المسلمين والمسيحيين ممتازة فى المنيا.. وفى كثير من المواقف هناك قرى بالمنيا يحرس فيها المسلمون المسيحيين وهم يؤدون صلاتهم.. والناس يعيشون معا، ويحبون بعضهم بعضا، وبيوتهم مفتوحة على بعض، وهذه إحدى مشكلات قرية الكرم.. بمعنى أن طرفى المشكلة مختلطان معا جدا جدا فى أعمالهما ومنازلهما.. وعلاقتهما قوية جدا. الأهرام: هناك بعض الأسئلة التى تراودنا ونحن نحاول إعادة رسم صورة إجتماعية للمكان.. ونسأل: لماذا تكرار هذه الحوادث؟.. ومثلا تلك الواقعة الأخيرة يمكن أن تحدث لكنها مع ذلك تحولت إلى واقعة ذات بعد دينى؟ الأنبا: لأ.. فكرة أن هذه الواقعة يمكن أن تحدث.. لأ.. مع احترامى لحضرتك.. لأ.. إن الواقعة التقليدية هى أن تكون هناك شائعة عن علاقة آثمة بين اثنين، أو علاقة خارج إطار الزواج.. هذا هو المتكرر والمنتشر.. وتتم معالجته بالطريقة التقليدية نفسها كل مرة.. ويأخذ مجراه بالقانون أو بالصلح، أو بالتعويض.. أيا كان. لكن التطور النوعى الخطير فى تلك الواقعة هو الإساءة لسيدة مصرية( سواء كانت مسنة أو غير مسنة)، واختفاء نخوة الرجال.. وهذا تطور خطير. الأهرام: وإلام ترجع نيافتكم هذا التطور الخطير.. خاصة أن السيدات الكبيرات السن كن يلعبن دورا جوهريا فى نقل القيم إلى الصغار وفى الحياة الإجتماعية؟ الأنبا: أنا أستطيع القول إن هذه الواقعة لم تكن مدبرة.. هذا إحساسى الشخصي.. لكن الهجوم على القرية هو الذى كان مدبرا. أن تجمع الناس.. هذا مدبر.. إنك لا يمكن أن تجمع 300 أو 400 شخص بشكل عفوى أو تلقائي.. لازم يكون هناك عقل مدبر.. أقصد الدخول إلى القرية واقتحامها لمعاقبتها بعد تردد الشائعة الفلانية.. وأنا أميل شخصيا إلى أن هذه الواقعة كانت عفو الخاطر؛ أن تجذب سيدة من الداخل فى ثورة الغضب والشحن العاطفي. الأهرام: يعنى هل الناس تغيرت؟ الأنبا: لا شك.. وأقدر أقول لحضرتك إن الثورة وتداعياتها لم تغير أخلاق الناس بل أظهرت ما كان مكبوتا داخل الكثيرين. مثلا.. كنا قبل الثورة نستحيى أن نتلفظ بألفاظ معينة، وكان هناك خط أحمر.. وكانت هناك حاجات تقال فى السر، أو داخل البيوت فقط، أو بين الأصدقاء.. لكن أن تقال على الهواء، أو فى الشارع.. فهذا نوع جديد. الأهرام: لكن لماذا أبو قرقاص دائما؟ الأنبا: من وجهة نظرى أن المعالجات الخاطئة تؤدى إلى التكرار وبشكل أسوأ، وإلى ترك الساحة لمن يريد أن يصدر عنه تصرف مماثل، وكذلك عدم محاسبة المخطئين، وعدم وجود رادع يخيف الذين يقدمون على هذا التصرف. إن كل الجرائم- بما فيها البشعة- تم علاجها بشكل خاطيء. إننا نلجأ إلى المسكنات بينما الأسباب تظل موجودة وتنمو. الأهرام: وما هى هذه الأسباب التى تتحدث عنها؟ الأنبا: هناك ستة متهمين هم: البيت/ المدرس/ المنهج/ الخطاب الديني/ الميديا/ القرارات السيادية. وطبعا الواقع الاجتماعى ينعكس على التربية فى البيت. الأهرام: وهل الفقر هو السبب؟ الأنبا: لأ.. هناك فقراء كثيرون ومع ذلك هم على خلق.. مافيش علاقة بين المستوى المالى والأخلاق. الأهرام: إذن ماذا عن خطط المعالجة؟ الأنبا: العلاج هو تغيير الثقافة، وهو ما يتطلب خطة. إننا لو كنا بدأنا فى هذه الخطة من عشرة أو عشرين سنة كنا زماننا حققنا نقلة كبيرة.. لكننا فى كل مرة نعالج الموضوعات سطحيا ووقتيا وننسى الواقعة فتطلع لنا واقعة أخري.