لم يكن يخطر ببالي أن التخريب والعبث بمقدرات الوطن يمكن أن يصل إلى بقاع لا تعرف العنف ولم تمارسه يوما كأهلنا في الوادي الجديد، تلك البقعة العزيزة من وطننا التي تقترب من نصف مساحة مصر،والتي لم تكتشف بعد رغم ما فيها من خيرات وثروات طبيعية خلابة . فمنذ عشرات السنين استوطنها بعض الباحثين عن مكان أرحب معظمهم من محافظات الصعيد ،آخذين معهم أجمل ما في أهل الصعيد من الشهامة والطيبة والكرم،فوجدوا الأرض البكر والماء العذب الوافر في هذه الصحراء القافلة الذي ينبع لكثرته في مدينة الداخلة من غير عناء حفر، فاخضر من الأرض ما قويت عليه سواعدهم، وانتظر الباقي الذي يكفي جميع سكان مصر من يعمره، ولكن لم يأت هذا المنتظر إلى الآن، وأتخيل أن مشروع تعمير الوادي الذي بدأ في عهد الزعيم الراحل جمال عبد الناصر لو استمر على وتيرته إلى الآن لكان حالنا أفضل مما نحن فيه بكثير، ولكان أكثر من نصف سكان مصر في الوادي الجديد، ولكن اكتفى الوادي الجديد برواده المحظوظين الذين استوطنوه وأصبحوا مع أبنائهم الأوفر حظا هم كل سكان هذه الجنة التي لا يرغب فيها أحد غيرهم، وهؤلاء الذين حملوا أخلاقيات الصعيد وتركوا خلفهم الأحقاد والضغائن والثأر الذي كان متفشيا وقتها وربما كان دافعا لكثيرين ممن قبلوا الرحيل إلى هناك بحثا عن الأمن والأمان،ظلوا في هدوئهم واستقرارهم يزرعون ما تقوى عليه سواعدهم، وبذلت الدولة جهودا متواضعة جدا في الحقب الماضية لاستغلال بعض الثروات كالفوسفات وغيرها وإنشاء المعاهد والمدارس والجامعات، ولكن بقيت الجهود غير كافية، ولم تسهم في حل مشكلة وادي النيل الضيق،فقد رسخت الحكومات المتعاقبة بفشلها في أذهان الناس أن الوادي الجديد الذي يمتلك كل المقومات ليكون مستقبل مصر الرخاء أنه أرض الشقاء والحرمان وربما النفي، وهؤلاء المحظوظون الذي ألفوا الأمن والسلم ورضوا بما تدره عليهم أرضهم وماشيتهم بجهودهم الشخصية حيث اكتفت الحكومة بتوطينهم في بيوت متواضعة وتركتهم يواجهون كثيرا من الصعاب، فصبروا واستطاع كثيرون منهم تأمين حياة أفضل لأبنائهم،عز على أهل الحقد والكراهية لأنفسهم وأوطانهم وابتعدوا كثيرا عن قيم دينهم وحضارة مجتمعهم أن يتركوا هؤلاء في حالهم، فامتدت الأيدي الآثمة لتهز سكونهم وأمنهم بالاعتداء الغاشم على أبطالنا في الفرافرة، وقد حسبت وغيري وقتها أنه حادث عارض أراد به الجبناء استغلال ضعف التأمين لبلد آمن بطبعه ليلفتوا أنظار الناس إلى بقائهم على الأرض، وأن هذا الحادث لن يتكرر بعد زيادة التأمين لجنودنا هناك طالما الأيدي الآثمة وصلت إليهم،ولكن بعد زيارة قمت بها قبل أيام في صحبة قافلة من أعضاء هيئة التدريس بجامعة الأزهر وهي إحدى القوافل التي تعمل في إطار الحملة التي أطلقها الإمام الأكبر تحت عنوان:(حب الوطن من الإيمان) ولافتتاح معهدين جديدين في بولاق وباريس، وتفقد سير التعليم الأزهري ووعاظ الأزهر هناك، رأيت من جرم هؤلاء ما لم يخطر ببالي، فقد وجدت على يسار الطريق في أثناء توجهنا إلى باريس ما يشبه سكة القطار وبعض المباني على مسافات تشبه محطات قطار صغيرة، لكن لا قطارات ولا أحد في هذه المباني وبسؤال اللواء محمود عشماوي محافظ الوادي الجديد الذي يعد مفخرة قيادية بمعنى الكلمة، والذي كنت بصحبته قال: هذه بالفعل سكة حديدية كان من المقرر أن تحمل الفوسفات لنقلها لتأخذ طريقها إلى التصنيع والتصدير، وتربط الوادي الجديد بوادي النيل،قلت له فلماذا لا تعمل: قال العصابات الإجرامية خربت السكة وقطعت قضبان الحديد لبيعه خردة،ثم أشار إلى ما هو أعجب حيث فوجئت بجرار قطار تمسك به عربة ركاب تقطعت به سبل العودة إلى حيث أتى إلى السكك الحديد التي نستخدمها وتربط بين أسوان والقاهرة،ليبقى شاهدا على قوم ابتعدوا عن تعاليم الأديان، وهانت عليهم الأوطان وباعوا ضمائرهم مع الخردة التي هى أنقى بكثير من قلوبهم الصدئة للشيطان، فيا أهل الوادي الجديد هبوا لإصلاح ما أفسد هؤلاء واحموه بأنفسكم فهو لكم ولأبنائكم، ويا أهل وادي النيل شجعوا أولادكم على اللحاق بإخوانكم الذين سبقوهم إلى هناك، فأعتقد أن الدولة الحديثة لن تترك الوادي الجديد على حاله طويلا، وساعتها قد لا يجد أبناؤكم لهم موطنا فيها، ويا حكومتنا وقادتنا افتحوا للمستثمرين الأبواب وحطموا كل روتين وتعقيد يمنعهم من تنمية هذه البقعة العزيزة من وطننا، إلا ما يؤثر على بقاء كل شبر من أرض مصر للمصريين فهو خطوط حمراء.