الخطأ الأكبر الذي وقعنا فيه في ثورة يناير, هو أننا عقب التنحي مباشرة لم نقف صفا واحدا لنستكمل الثورة بذات الحماس والقوة التي كانت لدينا يوم25 يناير, بل ما فعلناه للأسف هو أننا هللنا ورقصنا وأشعلنا النيران الاحتفالية في الشوارع والميادين, واعتبارنا أن الثورة قد انتهت بالانتصار, ثم انقسمنا إلي فرق وائتلافات وتيارات واتجاهات وأحزاب فضعفت صفوف الثوار, بينما استيقظت قوي الثورة المضادة من عناصر النظام السابق لإدراكها أن المعركة توا قد بدأت, وفي حين تراجعت طوائف الشعب المصري عائدة إلي بيوتها بعد التنحي مطمئنة هانئة بإنجازها العظيم, هبت أفواج الثورة المضادة من مكامنها لتنظم صفوفها بأعلي درجات التأهب لدخول معركتها الشرسة لتشويه الثورة والتحريض علي كراهيتها والنيل منها والتقليل من إنجازها بل والطعن أصلا في حقها في الوجود. وفي حين أن المعروف تاريخيا أن الثورات لا تنتصر بصورة نهائية عقب سقوط الأنظمة, فالشعوب بعد الثورات هي كالمريض الذي يشفي من المرض فيحتاج إلي فترة نقاهة كافية لتفادي عودة المرض إليه مرة أخري, وفي هذه الفترة علي المريض أن يتبع خطوات العلاج وتعليماته مثلما كان في أثناء المرض تماما حتي لا يسمح للمرض بدخول جسمه من جديد, وكذلك الشعوب قبل أن تهدأ وتستقر, عليها للتأكد من الشفاء من الأنظمة الظالمة أن تطهر مؤسساتها الدستورية والقانونية والتنفيذية أولا من أذناب النظام السابق ثم تضمن تسليم هذه المؤسسات للقوي الوطنية الأمينة علي مصلحة الوطن, ولا ننسي ما حدث من تراجع في مراحل الثورة الفرنسية التي بدأت بنجاح الثورة في اقتحام سجن الباستيل في 14 يوليو عام 1789, ثم جاءت المرحلة الثانية وشهدت بداية النظام الجمهوري وتصاعد التيار الثوري حيث تم اعدام الملك لويس السادس عشر, ولكن جاءت المرحلة الثالثة علي عكس ذلك حيث تراجع فيها التيار الثوري وعادت البورجوازية المعتدلة التي سيطرت علي الحكم, ووضعت دستورا جديدا, كما شجعت نابليون بونابرت للقيام بانقلاب ضد الثورة وإقامة نظاما ديكتاتوريا توسعيا متسلطا, وهكذا انتقلت الثورة الفرنسية من الثورية والجمهورية إلي الامبراطورية الدكتاتورية وهذا هو الوضع المأساوي الذي نحن في طريقنا للوصول إليه إذا لم نتخلي عن غفلتنا الحالية وتهاوننا الواضح مع قوي الثورة المضادة التي نتعامل معها باستخفاف واستهزاء وسخرية علي أنها مجرد طرف ثالث أو اللهو الخفي أوكأنها قطط أليفة تستحق ان نشفق عليها بينما هم نسور جارحة متوحشة تصر علي ابتلاع الثورة وكل ما يتصل بها ولابديل لديهم عن إذلال هذا الشعب وتركيعه عقابا له علي هدمه للنظام الذي كانوا يعيشون في نعيمه. ومن الأخطاء التي عجلت بالارتباك في خطوات ثورة يناير تشتت أهداف الثوار عقب نجاح الثورة, ففي حين كانت الثورة نفسها بأهداف وشعارات موحدة (عيش حرية عدالة اجتماعية وكرامة) فقد اختلفنا بعد الثورة حول هل الدستور أولا أم الانتخابات, بل اختلفنا أيضا في ترتيب القضايا التي تستحق الرعاية, وهكذا تشتت جهود وأهداف الثوار, بينما قوي الثورة المضادة كانت رابضة ملتحمة متضامنة في أهدافها وجاء علي رأس هذه الأهداف ضرب شعار (الجيش والشعب إيد واحدة) وإزاحته تماما من الساحة السياسية لأن هذا الشعار كان عنوان هزيمة مبارك ونظامه, مبارك الذي أنزل الجيش للشعب ليحاصره ويخنق ثورته, فإذا بالجيش يتضامن مع الشعب ليعلن الاثنان معا أنهما يد واحدة, فكان الهدف الأول لقوي الثورة المضادة قتل هذا الشعار وابادته, لأنه العمود الفقري للثورة ومن الأسباب الرئيسية لنجاحها, ومن يتشكك في وجود الثورة المضادة أو يريد أن يتعرف علي مدي قوتها أن يسأل نفسه.. أين هذا الشعار الآن (الجيش والشعب إيد واحدة) هذا الشعار الذي كان مع الثورة وبعدها مباشرة براقا لامعا يخطف القلوب والعقول تردده حناجر المصريين بقوة تزلزل الأرض تحت أقدام النظام السابق, أصبح هذا الشعار الآن وبفضل الثورة المضادة متواريا مختفيا تماما لا يقال إلا علي استحياءحيث اصبحت حقيقته اقرب إلي الشك منها إلي اليقين, بفضل الخطط الجهنمية التي جندت لها الثورة المضادة اسلحتها الفاتكة من أموال طائلة وسلطة ونفوذ جعلتها تحرز للأسف عدة أهداف ناجحة في مرمي الثورة, تمثلت في وقائع البالون وماسبيرو وأحداث شارع محمد محمود ومجلس الوزراء ومأساة استاد بور سعيد ووزارة الداخلية, والمؤسف أن الثورة المضادة مازالت كل يوم تحرز أنتصارا جديدا لها, بينما نحن لا نكتفي فقط بعدم الرد عليها بل نزيد من حدة الخلافات والانقسامات بيننا, وكأننا نهيئ للثورة المضادة فرصة أفضل وتربة خصبة للتفوق والنمو وابتلاع الثورة الذي حققها الشعب بدماء أبنائه. وقد بلغت بنا الغفلة والاستهانة سواء عن جهل أو تواطؤ أن وفرنا للثورة المضادة وعلي مدي شهور طويلة مقرا ملائما ليكون موقع تجمع (مجلس قيادة الثورة المضادة) وذلك في سجن طرة, بينما جاء المركز الطبي العالمي حيث يقيم مبارك ليكون القيادة العليا للثورة المضادة, بينما الأذرع التنفيذية للثورة المضادة متشعبة ومتغلغلة في العديد من المؤسسات والهيئات والوزارات, حيث قاربت الثورة المضادة في قوتها قوة الثورة نفسها, وما سمح بحدوث هذا حالة الاستهانة والسخرية التي تعاملنا بها مع الثورة المضادة, بينما هي تحارب الثورة بجدية وصلابة, فالاستهانة بالعدو أول طريق الهزيمة, واحترام العدو وسيلة أكيدة لتحقيق الانتصار, فعلينا من الآن تجاوز هذا الخطأ باحترام قدر الثورة المضادة ومكانتها وإمكاناتها حتي نستطيع هزيمتها وأن نحتشد وبقوة للنيل منها, فالمعركة مازالت مستمرة والثورة مازالت مستمرة, فعلينا قبل أن تنطلق صفارة النهاية أن ننتبه ونوحد صفوفنا وندرك أننا في معركة حقيقية مع الثورة المضادة ولسنا في نزهة ترفيهية معهم, إنه لابديل أمامنا عن الانتصار علي الثورة المضادة وإفساد مكائدها المتواصلة, حان الوقت أن نسجل أهدافا في مرماها حتي نعوض ما فات, وحتي نحفظ كرامة دماء الشهداء التي روت ميادين هذا الوطن, وحتي لا نعطي الفرصة لمبارك وأمثاله أن يجلس مرة أخري علي عرش مصر لأن هذا هو الهدف الاستراتيجي الذي تسعي لتحقيقه الثورة المضادة. المزيد من مقالات د.عبد الغفار رشدى