ظللت محتفظا بتفاؤلي من ظهيرة25 يناير إلي أن رأيت مراسم إعلان تنحي الرئيس الساعة السادسة من مساء11 فبراير2011 وشاهدت ممثل المجلس الأعلي للقوات المسلحة يودع القائد الأعلي السابق للقوات المسلحة بكل الاحترام, ثم يرفع يده بالتحية العسكرية تقديرا لشهداء الثورة, ومؤكدا ان المجلس الأعلي للقوات المسلحة ليس بديلا للشرعية, ثم شاهدت الجموع المليونية تحتشد من جديد منذ أيام في جمعة النصر18 فبراير.2011 وبدأت خلال ذلك أستعيد ذكريات أعوامي التي تجاوزت السبعين, متأملا ما أنجزه الأحفاد صناع ثورة25 يناير الذين أثبتوا استحالة قراءة واقع جديد بنظارات قديمة لعلها كانت صالحة لرؤية الواقع القديم, ولذلك فقد حاولت منذ ظهيرة25 يناير أن أرصد بنظاراتي القديمة ما أصبح غائبا عنها; أي أرصد ما لم أعد أراه فاكتشفت سقوط أوهام التعصب الديني, والعنف الجماهيري الكامن والعجز عن المشاركة وتدهور الإحساس بالانتماء والقدرة والصورة الشيطانية للإخوان المسلمين, أوهام كنت أراها كحقائق أكاد ألمسها بيدي. ومع تحقيق الثوار لهدفهم الأساسي المعلن, عدت لأراجع مرة أخري مخزوني الفكري القديم لشروط الثورة وآلياتها لأكتشف أن ذلك المخزون الفكري قد عفا عليه الزمن. أولا: ضرورة القائد: لم أجد في مخزوني الفكري نموذجا واحدا لثورة دون رمز يتمثل في قائدها. هكذا كان عرابي وسعد زغلول وعبدالناصر وأبو عمار وكاسترو ولينين وغيرهم علي امتداد الجغرافيا والتاريخ, تعلمنا أن القائد ضروري ليعلن أهداف الثورة ويضبط مسارها, وساورني القلق في البداية من تلك الظاهرة غير المسبوقة, تري من هو المتحدث المعتمد باسم الثوار؟ لقد توافد علي الميدان العديد من الرموز السياسية الوطنية إلي ميدان التحرير ولاقاهم الثوار بكل توقير واحترام, ولكن دون اختيار أحدهم قائدا أو رمزا لثوراتهم, ولعل السلطة كانت تبحث من ناحيتها وفقا للإطار الفكري القديم عن قائد خفي للثورة يمكن اصطياده لإغوائه أو تهديده أو التفاهم معه أو حتي تصفيته, وفضلا عن ذلك فلم يكن للثوار تنظيم واحد يجمع بينهم, بل تنظيمات عديدة تشمل الأطياف المصرية جميعا من مجموعات الفيس بوك إلي جماعات الاحتجاج السياسي والاجتماعي إلي جماعة الإخوان المسلمين إلي الشيوعيين إلي جماعات أو حتي أفراد يعبرون عما لحقهم من ظلم. ولا يستطيع المرء مهما بلغت سذاجته أن يتصور حشدا مليونيا يدير أموره الحياتية من إعاشة وحماية وعلاج بل وإعلام وترفيه دون هيئة تتولي تنظيم ذلك, إنني موقن علميا من ذلك حتي دون دليل ملموس, ولكن يبقي الجديد الذي أضافته ثورة يناير للتراث الثوري العالمي, إمكانية أن تنجز الجماهير ثورة منتصرة دون أن تضيع وقتها في الحوار التاريخي حول من هو الأحق بالقيادة, ودون أن تمكن تلك الجماهير أحدا من اختراقها. لقد كان نجاح الثورة دون حاجة للقائد الرمز أو التنظيم الثوري القائد أمرا إيجابيا لا نظير له في المخزون الفكري القديم. ثانيا: الثورة السلمية: حين شاهدت طلائع مسيرات الثوار استوقفني أنهم كلما اقتربوا من مبني مؤسسة أو اقتربت منهم جنود الشرطة ارتفعت أصواتهم بهتاف سلمية سلمية. وعدت إلي مخزوني الفكري القديم حيث يقبع ملف قديم يحمل عنوان الكفاح السلمي أو السلام الهجومي, لقدتملكني اليأس بعد أن كتبت طويلا في الموضوع, وكيف أن موازين القوي المادي ليست وحدها العامل الحاسم في الصراع, وأن للجماهير المسالمة أسلحتها النضالية, وتكاتفت قوي عديدة لو صم ذلك النوع من الكفاح بكافة الإدانات الثورية التي تؤكد أنه لا تغيير دون سلاح ولا ثورة دون أنياب, وجاء ثوار25 يناير بهتافهم العبقري سلمية سلمية ليثبتوا عمليا رغم ما واجهوه من عنف دموي أن الجماهير المسالمة المحتجة المليونية يستحيل أن يقهرها أحد وأن تلك الجماهير هي أنياب الثورة ودرعها الواقية. ثالثا: الجيش يلحق بالثوار وليس العكس: لقد عرفنا من خلال خبراتنا القديمة أن طلائع الجيش الثوري ينبغي أن تسبق الجماهير وتعبر عن آمالها وتحمي تحقيق تلك الآمال, وأنه إذا ما حدث العكس فتحركت جماهير مسالمة أو حتي أقل تسليحا فإن الجيش سوف يبادر إلي قمعها حماية لشرعية السلطة القائمة, وجاءت ثورة25 يناير لتضيف للخبرة الثورية إضافة غير مسبوقة. الثورة السلمية تنتشر في مدن مصر وتستمر رغم سقوط الشهداء وتصد الأوامر في اليوم الخامس لقوات الجيش المصري بالنزول من معسكراتها إلي الشوارع لإعادة الانضباط, وصاحب نزول دبابات الجيش إلي الشوارع تحليق بعض الطائرات العسكرية فوق المتظاهرين, ولعل رعبا لم يصب الثوار الشبان ولكن منا نحن المسنين من اصابه رعب له ما يبرره بطبيعة الحال, فتحليق هذه الطائرات الحربية في ميدان التحرير أعاد إلي الذاكرة الأحداث الدموية المرعبة التي تم فيها سحق المتمردين, حيث قتل في ساحة تيانمين في الصين عام1989 ثلاثة آلاف متظاهر, وسقط في الثورة الإيرانية عام1979 ثلاثة آلاف قتيل, وسقط في حماة عام1982 أكثر من عشرين ألف قتيل, وقتل في ثورة اندونيسيا عام1998 قرابة ألف شخص. ولكن عيون المصريين رأت مشهدا فريدا سيظل عالقا في وعيهم الجديد, لقد وقفت دبابات الجيش المصري لتحول بين الثوار وبلطجية فلول النظام, وسمعت المسئول العسكري الميداني عن ميدان التحرير لجموع المحتجين أن أحدا من رجال الجيش لن يطلق عليكم رصاصة, وفي نفس الوقت لم تتحول مدافع الدبابات إلي السلطة لتزيحها بعمل انقلابي, تري هل كان ذلك يعني دعوة للثوار لرفع أصواتهم عاليا لتسمعها السلطة وتقتنع بأنه لا سبيل أمامها سوي الامتثال لمطلب الثوار؟ قد تحمل لنا الأيام من التفاصيل ما يفسر ما كان يدور بين قادة الجيش المصري آنذاك, ولكن بصرف النظر عن تلك التفاصيل فسوف يبقي راسخا ذلك المشهد الفريد غير المسبوق: الجيش يلتحق بالثوار وليس العكس. رابعا: الثوار حماة الثورة: رسخ لدينا من مسلمات الزمن القديم أنه لابد للثورة الشعبية من ضامن يقوم علي حمايتها وتجنيبها مخاطر الثورة المضادة ومخاطر الانحراف ومغامرات المتربصين, وسادت بناء علي ذلك الفكر القديم أن الجيش هو الضمان, وأظن أن ذلك الجيش العظيم الذي لحق بالثوار ورفض أن يقف في مواجهتهم بل وتكفل بحمايتهم, ذلك الجيش هو الذي في حاجة إلي ضمان يكفل له ألا يتعرض لانشقاق أو انقلاب أو تهاون, وليس من ضمان سوي ذلك الشعب الذي انضوي تحت راية ثورة25 يناير. إن أي صانع قرار في مصر الغد وأيا كان لونه الفكري أو انتماؤه العقائدي أو حتي نوعية ولائه القومي أو الديني أو الدولي; لن يبرح ذاكرته قط مشهد تلك الملايين التي اندفعت فجأة ودون توقع لتصنع ثورة25 يناير2011 متحدية كافة أساليب القمع الدموي والتشويه الفكري, وسوف يكون هذا المشهد بتفاصيله هو الضمان الذي يضغط علي الجميع تري ما الذي يحول دون الجماهير المليونية من التدفق من جديد ولعل التجمع المليوني غير المسبوق في جمعة الانتصار18 فبراير دليل علي إمكانية ذلك التكرار. خامسا: الخبز يلحق بالحرية: كان التصور السائد هو أن تتطور الاحتجاجات والإضرابات و الاعتصامات العمالية والفئوية لتصبح بمثابة القاطرة التي تلحق بها بقية فئات المجتمع المتعاطفة مع من يطلبون الخبز ولعله من اللافت للنظر فيما يتعلق بمسار ثورة25 يناير أن طليعتها كانت من شباب مثقف ميسور الحال لا يعاني من شظف عيش أو بطالة, ولكنه كان يفتقد الكرامة والحرية ومن ثم فقد غيرت ثورة25 يناير المعادلة التقليدية, حيث احتل من يطلبون الحرية مقدمة المشهد في البداية لتلحق بهم وتلتف حولهم جموع المطالبين بالخبز ممن يشكون شظف العيش والبطالة والفساد واتساع الفجوة بين الأجور. سادسا: آليات جديدة لتشكيل الجبهة: لقد جمع الحشد المليوني في ميدان التحرير كافة ألوان الطيف السياسي المصري من الإخوان المسلمين إلي الشيوعيين إلي حزب الجبهة إلي الحزب الناصري إلي حركة كفاية إلي أنصار الدكتور محمد البرادعي إلي جماعة خالد سعيد وجماعة6 أبريل و25 يناير إلي آخره. حين نظرت إلي تلك الصورة المعقدة تساءلت بمنظوري القديم, تري كيف لهؤلاء أن ينسقوا جهودهم لتكوين جبهة يتوافق عليها الجميع؟ واستعدت ذكريات محاولات فاشلة لتكوين الائتلافات والجبهات في مصر وفي العالم العربي إلي حد بروز ظاهرة تفتت التيار السياسي الواحد إلي مجموعات متصارعة تذكرت كيف كان المناضلون يمضون وقتا طويلا في تحديد ماذا بعد الإطاحة بالعدو أو بالنظام الفاسد, وتذكرت كيف انقسم حزب البعث العربي الاشتراكي علي نفسه وتذكرت كيف كنا نتحدث طويلا عن صورة فلسطين بعد التحرير: اشتراكية أم إسلامية أن لا شرقية ولا غربية وكيف كنا نبذل جهدا شاقا لا يثمر كثيرا في البحث عن صيغة لتنظيم مظاهرة مجرد مظاهرة يشترك فيها الشيوعيون والإخوان المسلمون والوفديون كانت تشغلنا قضية وماذا بعد الانتصار, وكان المبرر الذي بدا للكثيرين مقنعا آنذاك: أننا إذا ما لم نتفق علي المستقبل لتفاصيله فسوف ينتهي بنا الأمر إلي التقاتل والفوضي. وفوجئت بأن تلك الجموع المليونية من الثوار دون تنسيق سياسي مسبق تخطو تلك العقبة الكأداء ورفعوا شعارا واحدا أجمعوا عليه الشعب يريد إسقاط النظام والتف الجميع حول هذا الشعار دون أن يتنازل أحد عن توجهاته الفكرية الأصلية ظل كل علي قناعاته دون أن ينكرها أو يتنكر لها معترفا بحق الآخرين في الاحتفاظ بقناعاتهم, ويعلن الجميع التزامهم بعد الانتصار بالاحتكام إلي الجماهير والخضوع لإرادتها في ظل حكم مدني يعبر عن إرادة الشعب عبر انتخابات نزيهة. ختاما: تري هل انتهت الأخطار التي تهدد تلك الثورة؟ لا أظن ذلك, ومن هنا فثمة قلقل مشروع, ولكن الفارق كبير بين التشاؤم والقلق. الشاؤم يعني ترجيح أن الثورة مآلها الفشل, ولعله من مسلمات علم النفس السياسي أن سيطرة الإحساس بالتشاؤم وتوقع الفشل يمكن في حد ذاته أن يؤدي إلي تحول هاجس الفشل إلي واقع فعلي, أما القلق فهو يعني أن الثورة في حاجة إلي أن تظل عيون الثوار وكذلك آذانهم مفتوحة. المزيد من مقالات د. قدري حفني