تبدو محاولة أسلمة الدكتور طه حسين، وإهالة التراب على تراثه التنويرى ضربا لكل قيم الحداثة، فطه حسين لم يكن شيخا معمما يكرس حياته للدفاع عن مقولات واهية يروج لها أنصار التيار الإسلامي. وقد أدهشنى المقال الذى كتبه الأستاذ فهمى هويدى بعنوان «طه حسين أوابا»، والذى يحيل فيه إلى كتاب الدكتور محمد عمارة الصادر مع عدد مجلة الأزهر، والحامل عنوان( طه حسين من الانبهار بالغرب إلى الانتصار للإسلام)، كان المقال صادما بحق، بدءا من عنوانه ( طه حسين أوابا)، وبما أوجب على الرجوع إلى كتاب الدكتور عمارة المشار إليه حتى أتبين ما فيه، وبعيدا عن الصبغةالسلفية التى تغلف عنوان المقال، فإن ثمة إشارة دالة على التصور الفكرى الذى ينطلق منه هويدي فى قراءته لطه حسين، والتى تبدو قراءة ماضوية، تعد علامة على وعى سابق التجهيز، قديم، ومحدد سلفا. المقال تعاطى بافتتان بالغ مع كتاب الدكتور عمارة، والذي وجدت فيه تقسيما تعسفيا للمراحل الفكرية التى مر بها طه حسين، لكن ما لا يمكن قبوله هو حالة العدوان الفكرى على طه حسين، سواء فى متن الكتاب أو المقال معا، وإخراجه من حيز الثقافة الطليعية التى يعد أحد أبرز مؤسسيها إلى خانة المفكر»الأواب»،الذى يتراجع عن آرائه التقدمية حتى يتحول إلى رجل»أواب» فى عرف مفكرى الإسلام السياسي وتنظيراتهم الميتافيزيقية!. من المفارقات الواردة فى الكتاب ما سماه مؤلفه «مرحلة الانبهار الشديد بالغرب»، واستمرار تصورات الإسلاميين البالية بشأن الكتاب الفارق فى أعمال طه حسين» فى الشعر الجاهلي»، والذى كان مثارا لجدل خلاق عرفه المجتمع آنذاك، وبرأته النيابة العامة وفق مذكرة بليغة كتبها السيد محمد نور، بعد أن لعبت القوى الرجعية دورا فى حشد الرأى العام وتعبئته ضد أفكار طه حسين، وهذا الكتاب يراه عمارة مثل سائر منظرى الإسلام السياسى يتسم (بتأثر مستفز بالأفكار والقيم الغربية عندما طبق غلو الشك العبثى على المقدسات الإسلامية)، وهى محض أقوال تخص أصحابها، ولا علاقة لها بقيم البحث وأصوله ومناهجه العلمية التى لا تعرف اليقين. أما الأدهى فى الكتاب الذى يحتفى به الكاتب فهمى هويدى فى مقاله فيتمثل فى الإشارات الواردة من قبل المؤلف إلى أن (أهم تطور فكرى فى تلك الفترة نتج عن زواج طه حسين فى فرنسا من فتاة فرنسية مسيحية أقنعها عمها القسيس بالزواج منه فكانت عينه التى يقرأ بها وأثرت كثيرا فى قناعاته الفكرية)، وهى تصورات طائفية بامتياز، أترك للقارئ الحكم بشأنها. إن طه حسين ابن لرؤية كلية للعالم، ومحاولة اجتزائه أو النظر إليه وفق صيغة مسبقة لن تؤدي سوى للمزيد من العدوان على إرث الرائد والمعلم طه حسين، فالعميد كان نموذجا للمثقف الموسوعي، الذى يضرب بسهم فى سياقات مختلفة من المعرفة، لكن النظر الدقيق والفاحص والموضوعي للعالم والأشياء لم يغادره قط. ولعل مؤلفه المهم «مستقبل الثقافة فى مصر»، يحيل إلى أزماتنا بكل دقة، ويضع مشروعا فكريا له ملامح إجرائية واضحة للتعاطى معها، فقد كان طه حسين يدرك تماما جدل العلاقة بين التعليم والثقافة، ويدرك أيضا أن الانفتاح على العالم جزء أصيل من مكونات الشخصية المصرية، وأنه لا عيش فى ظل عالم منعزل، ولم ير تعارضا من أى نوع بين الحفاظ على محددات الهوية الحضارية المصرية، وانتمائها الحر إلى عالم رحب، ووسيع، كما كانت كتاباته فى «حديث الأربعاء» عنوانا على ناقد حصيف، يقرأ القديم بمنطق جديد. كان طه حسين أيضا نموذجا للأكاديمى صاحب الضمير اليقظ، والحي، ففى الثلاثينيات، وبسبب خصومه من الرجعيين المعادين لخطه التنويري، وبسبب مواقفه الحرة الرافضة التى كان من بينها منح الدكتوراه الفخرية للشخصيات السياسية لشهرتها، تعنتت السلطة ضد طه حسين ومارست عدوانا عليه، ونقلته من الجامعة إلى وزارة المعارف، فرفض النقل و اعتبره اعتداء صارخا على استقلال الجامعة، وتضامن معه أحمد لطفى السيد،وآخرون. وفى الأدب لطه حسين حضور بديع، وهنا نذكر نصوصه الفاتنة:«دعاء الكروان، أديب، الحب الضائع»، وسيرته اللافتة «الأيام»، وغيرها. وربما يصبح مناط الجدارة فى رواية «دعاء الكروان» قدرتها اللافتة والمبكرة على تعرية المجتمعات المغلقة والاصطدام مع موروثاتها التقليدية وبما يعنى أن المشروع الأدبى لطه حسين لم يكن منفصلا عن مشروعه الفكرى بل كان امتدادا له، وضربا من الانحياز العارم لكل المقولات الكبرى التى دشن لها طه حسين فى مسيرته الفكرية والتى يعد أبرزها الانتصار لتلك الجدارة الانسانية، فهنادى ضحية حبها وموروثها القاسى وخيانة الطبقة البرجوازية الممثلة فى مهندس الري، وآمنة أو سعاد تحيا حالا ممزقة بين الرغبة والثأر، بين الحب والانتقام فى صراع كلاسيكى شهير. وفي «الحب الضائع» يبدو طه حسين أكثر جسارة فى طرح روائى يستند على تيمة جوهرية فى السرد والحياة،وهي الحب، فيكسر التابوهات غير معنى سوى بنصه وانحيازاته الإنسانية والجمالية. وبعد.. فى اللحظة التي يجب فيها استعادة طه حسين يلجأ البعض لحرف مساراته الطليعية إلى صيغ قديمة وماضوية، وبما يجعلنا أمام مسئولية تاريخية وثقافية تعيد للرجل اعتباره، بوصفه رمزا أصيلا من رموز ثقافة التقدم والاستنارة والإبداع، وليس أوابا بمنطق التفت يشفى النوايا والضمائر. لمزيد من مقالات د.يسرى عبد الله