جاء الاعلان عن تأجيل المؤتمر الوزاري لمنظمة التجارة العالمية الذي كان مقررا انعقاده في جنيف خلال شهر مارس الحالي, ليلقي المزيد من الاضواء علي التعثر الذي تشهده جولة الدوحة. للمفاوضات التجارية متعددة الأطراف علي مدي يقرب من قرن من الزمان, حيث انطلقت في عام2001, نتيجة السياسات المتعنتة من جانب الكبار وتحديدا من جانب الولاياتالمتحدة والاتحاد الأوروبي, إزاء مطالب الصغار من دول الجنوب والدول النامية فيما يتعلق بالسياسات الزراعية بصفة أساسية وفتح اسواق الدول المتقدمة امام صادرات الدول النامية. ومن المفارقات في هذا الصدد, ان يتواكب الاعلان عن هذا التأجيل مع التحذيرات التي وجهها باسكال لامي مدير عام منظمة التجارة العالمية, نتيجة انكماش حجم هذه التجارة بنسبة12 في المائة خلال عام2009, وذلك للمرة الأولي منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية, وإن كانت ارقام البنك الدولي اكثر تشاؤما حيث اشارت إلي انخفاض حجم التجارة العالمية بنسبة14.4% خلال العام الماضي(2009) مقارنة بما قبله(2008). وإذا كان هذا الانكماش في التجارة العالمية من أبرز النتائج المترتبة علي الأزمة المالية والاقتصادية التي عصفت بدول العالم خاصة الصناعية المتقدمة, إلا أنه من المؤكد أن تعثر جولة الدوحة للمفاوضات التجارية متعددة الأطراف, يعود بجذوره إلي ما يقرب من عشرة اعوام للوراء, كما انه سيناريو معاد للمفاوضات التجارية السابقة مثال جولتي اورجواي وطوكيو وإن كانت حساسيتها قد تزايدت والعقبات التي تواجهها قد تراكمت. * وأبرز مثال في هذا الصدد هو موقف الولاياتالمتحدةالأمريكية من مفهوم حرية التجارة العالمية, كيف يتحقق وما هي الشروط الواجب توفيرها؟, حيث أدت التغيرات علي ساحة التجارة العالمية وتباين الأدوار التي يقوم بها اللاعبون الأساسيون, إلي إحداث خلخلة في المفهوم الأمريكي لهذه الحرية, وإن بدت الاعلانات الرسمية والتصريحات مؤيدة ومدعمة لحرية التجارة ومنظمتها العالمية التي كانت واشنطن أبرز الداعين اليها من خلال سياسة العصا والجزرة. لقد تجاوزت الصادرات الصينية نظيرتها الألمانية مسجلة رقم1.2 ألف مليار دولار في عام2009, نتيجة انكماش الطلب من جانب الولاياتالمتحدة والدول الصناعية الأخري علي الصادرات الألمانية, بينما عمدت الصين إلي التركيز علي السوق الآسيوية بخاصة اليابانية لتعويض انكماش الانفاق والطلب الاستهلاكي في الولاياتالمتحدةالأمريكية. يضاف إلي ذلك زيادة الواردات الصينية من الخارج من10% إلي12% خلال عامي2008 و2009 فتكون بكين بذلك من أبرز القوي المؤثرة علي جانبي الصادرات والواردات في التجارة العالمية, وقد ترجم ذلك في تراكم أرقام عجز الميزان التجاري الأمريكي ليسجل517 مليار دولار في نهاية العام الماضي, مقابل فائض لألمانيا191 مليار دولار وذات الوضع بالنسبة للصين التي سجلت فائضا بلغ173 مليار دولار, خلال ذات الفترة. * وفي ظل هذه المؤشرات بالإضافة إلي تبادل مقعد الرئاسة في البيت الأبيض, وتبعات الأزمة المالية والاقتصادية الأمريكية الصنع والعالمية الانتشار. جاءت رؤية الحزب الديمقراطي والرئيس باراك اوباما ذات دلالات متضاربة بالنسبة للمفهوم الأمريكي لحرية التجارة العالمية, وإن كانت تلتقي مع مفهوم الحزب الجمهوري والرئيس الأسبق جورج بوش الذي يستند إلي ضرورة فتح المزيد من الأسواق الخارجية امام الصادرات الأمريكية من خلال الاتفاقيات التجارية الثنائية والاقليمية بالدرجة الأولي ولو كان ذلك علي حساب منظمة التجارة العالمية, التي تشهد مفاوضاتها في جولة الدوحة سلسلة من العقبات وتعنت المواقف من جانب الدول الصناعية المتقدمة. * فقد أفرزت الأزمة العالمية, شعار اشتري امريكا لتشجيع الاستهلاك المحلي للمنتج الوطني, وهو الشعار الذي رفعه الرئيس باراك أوباما خلالها. كما انها أدت إلي مزيد من التركيز علي أهمية التجارة الخارجية في تحريك عجلة الاقتصاد الأمريكي, وخلق المزيد من فرص العمل, فكان الاعلان عن أسبوع التجارة العالمية خلال الفترة17 23 مايو2009. وقد استند الرئيس أوباما في ذلك إلي أن الصادرات تشكل نسبة13% من النشاط الاقتصادي للولايات المتحدة, وأن أهميتها تتزايد في الأوقات الاقتصادية العصيبة. إلا أن عنصر المفارقة يكمن في تضارب هذه الاجراءات مع مفهوم حرية التجارة العالمية, حيث حمل الشعار الأول ظلال السياسة الحمائية للمنتجات الوطنية, اما الاعلان الثاني فقد ارتبط بالمفهوم الأمريكي لهذه الحرية والذي ترجم في فشل سلسلة الاجتماعات الرسمية وغير الرسمية التي شهدتها منظمة التجارة العالمية خلال العام الماضي, حيث كان التركيز علي اهمية فتح الأسواق الخارجية امام الصادرات الأمريكية مع استمرار سياسة دعم المزارعين والمنتجات الزراعية. وكذلك صغار رجال الأعمال لزيادة صادراتهم. ولا تبدو هذه الاجراءات الأمريكية ولاذاك التعثر في المفاوضات التجارية متعددة الأطراف, بمثابة مفاجأة غير سارة للعالم, ولكنها نتيجة متوقعة لتوجهات الحزب الديمقراطي وما سبق واعلنته وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون خلال معركة الرئاسة الأمريكية في عام2007, حيث شنت هجوما علي اتفاقيات التجارة ومفاوضات الدوحة لإغفالها معايير الحفاظ علي البيئة وحقوق العمالة, بينما تسعي إلي اختراق السوق الأمريكية نظرا لارتفاع معدلات الاستهلاك وانخفاض معدلات الادخار!! * كما لا يبدو الوضع افضل حالا, في ظل تولي الحزب الجمهوري للحكم في الولاياتالمتحدة, فقد عمد إلي رفع شعار حرية التجارة, ولكن من خلال التوسع في الاتفاقيات التجارية الثنائية والاقليمية, بل إن عدد هذه الاتفاقيات تزايد في فترة ما بعد انشاء منظمة التجارة العالمية في يناير1995, مقارنة بما كان قائما قبلها(12 اتفاقية قبلها,15 اتفاقية بعدها). فمن الحقائق الواجبة التوضيح الاشارة إلي أن اتفاقية منطقة التجارة الحرة بين الولاياتالمتحدة وإسرائيل, وقعت في عام1985 في ظل رئاسة رونالد ريجان, لتكون الأولي في سلسلة اتفاقيات مناطق التجارة الحرة التي وقعتها الولاياتالمتحدة مع اطراف ثنائية واقليمية منذ ذلك التاريخ. بلغ عدد اتفاقيات المناطق التجارية الحرة, سبع عشرة اتفاقية ابتداء من إسرائيل وحتي كوستاريكا, مرورا باستراليا ومجموعة دول أمريكا الوسطي والدومنيكان وكوستاريكا الخ. وقد شارك في جميع هذه الاتفاقيات( سواء طبقا لقانون التجارة لعام1974 المعدل بالقانون الصادر عام2002) ممثلون لقطاع الأعمال الخاص والجماعات ذات المصالح بالتجارة الخارجية الأمريكية, سواء خلال أو في فترة ما بعد التفاوض حولها. ولكن ما هي الاسباب التي دفعت واشنطن إلي توقيع هذه الاتفاقيات. إلي جانب الدخول في مفاوضات متعلقة باتفاقيات مماثلة, بينما منظمة التجارة العالمية قائمة؟ الاجابة تكمن من وجهة النظر الأمريكية في فتح المزيد من الأسواق الخارجية وتوسيع فرص العمالة ورجال الأعمال الأمريكيين علي حد سواء. ناهيك عن فتح قطاع الخدمات في الدول الموقعة امام المنافسة الأمريكية, وتحقيق المزيد من الحماية لحقوق الملكية الفكرية ومعايير البيئة, وبما يتجاوز العقبات التي تواجه المحادثات التجارية متعددة الأطراف. كما أن الاعتبارات الخاصة والمعايير المحددة من جانب واشنطن تلعب دورها في دفع عجلة المفاوضات الخاصة بمناطق التجارة الحرة, وقد ادرج تقرير صادرات عن الحكومة الأمريكية في نهاية عام2007 تلك المعايير في ست نقاط رئيسية: تقدمتها, درجة استعداد الدولة المعنية للدخول في منطقة تجارة حرة مع الولاياتالمتحدةالأمريكية, وبمعني اكثر تحديدا قوة العلاقات الاستراتيجية ثم درجة الاصلاح في هذه الدول. وتأتي المصالح الاقتصادية والتجارية المتحققة في الدرجة التالية, ومدي توافقها مع إستراتيجية تحرير التجارة بصفة عامة. وبعد, إذا كانت هذه الاعتبارات والمعايير جديرة بالدراسة والتحليل. فإن الأمر المؤكد, هو ان التوسع الأمريكي في توقيع اتفاقية انشاء مناطق التجارة الحرة, غطي نسبة قدرت ب46% من اجمالي تجارتها الخارجية علي مدي الفترة منذ عام1985 حتي الآن. وهذا هو المكسب الفعلي الذي حققته واشنطن علي حساب منظمة التجارة العالمية, ولا عزاء لشعار تحرير التجارة العالمية وتكافؤ الفرص التصديرية.