يعرف المصريون جيدا مغزي وتأثير تلك السنوات الثلاث في التاريخ المصري الحديث الذي يمتد أكثر قليلا من قرنين من الزمن. في عام1805 ولد النظام السياسي الملكي الوراثي للأسرة العلوية الذي استمر قرابة قرن ونصف القرن. وفي عام1952 أطاح انقلاب عسكري بالأسرة العلوية وتحول في الوعي العام إلي ثورة وبدأ نظام حكم عسكري تولي فيه العسكريون وحدهم دون غيرهم مقاليد السلطة في البلاد. وفي عام2012 بدأ نظام حكم جديد تولي فيه رئيس حزب الحرية والعدالة الذراع السياسية لجماعة الإخوان المسلمين مقاليد السلطة بانتخابات ألحقت بالانتخابات الديمقراطية. ولدت تلك الجماعة في عصر الأسرة العلوية الملكية وأفادت كثيرا من إخفاقات أواخر ملوك تلك الأسرة في تحقيق العدالة الاجتماعية وإنجاز تنمية حقيقية تصل بتأثيراتها إلي جموع المصريين, وتصدرت المشهد السياسي منذ نهاية الأربعينيات حتي بدأ صدامها مع حكومات الثورة. هادنت حينا وكشفت عن عدائها أحيانا أخري. بين هذه السنوات الثلاث التي صنعت تاريخ مصر الحديث تشابه واختلاف. قد لاتعنينا كثيرا أوجه الاختلاف بقدر ما تعنينا أوجه الشبه التي لاتزال تؤثر في حياتنا. لعل أكثر أوجه التشابه بين ماجاءت به تلك التواريخ تأثيرا في حياة المصريين وتطورهم هو أن النخب التي تعاقبت علي الحكم بأساليب مختلفة كانت في كل مرة حريصة كل الحرص علي إعادة ترتيب المجتمع بما يخدم مصالحها دون النظر إلي مصالح جموع المصريين. ولذلك كان التغيير من نخبة إلي نخبة يؤثر في مجموعات تلك النخب فيما ظل المصريون علي حالهم يتغيرون بفعل الظروف والتطورات الاقتصادية والمعرفية والتكنولوجية العالمية وليس بفعل التغيرات التي أحدثتها النخب الحاكمة في حياتها مع استثناءات قليلة في بعض سنوات حكم العسكريين. لم يحصل المصريون طوال تلك السنوات علي حريات سياسية حقيقية تتناغم مع تطور مفهوم الحريات السياسية في العالم بما في ذلك التجربة السابقة علي ثورة يوليو. ولو أن مصر في تجربة ما قبل الثورة قد شهدت حرية حقيقية وديمقراطية فعلية لما تهاوت سريعا أمام حركة الضباط الأحرار قبل أن تتحول إلي ثورة. ولذلك ظلت البنية السياسية للمجتمع المصري علي حالها. وغاية ما وصلنا إليه هو دولة حديثة في مظهرها العام رئيسا وحكومة وبرلمانا ونشيدا وطنيا ومؤسسات مع مجتمع تقليدي قديم في علاقته الاجتماعية وأدواته اللازمة لبناء حياة عصرية حديثة. ولذلك لم تنجز مصر تحولا اقتصاديا حقيقيا في تاريخها الحديث. فغياب الحريات السياسية منعنا من تحويل تلك الحريات إلي فرص اقتصادية حقيقية تدفع مستويات حياة الأفراد والمجتمع إلي الأمام. لاتختلف في ذلك تجربة محمد علي التي بدأت عام1805 باختيار شبه شعبي ورعاية عثمانية عن تجربة ثورة يوليو عام1952 بانقلاب عسكري تحول إلي ثورة في الوجدان العام. ولم يختلف الأمر قليلا أو كثيرا عن الجمهورية الثانية التي بدأت بولاية الرئيس محمد مرسي عام2012 بانتخابات ألحقت بالانتخابات الديمقراطية. الأنظمة الثلاثة: الملكية والعسكرية والثورية الديمقراطية لم تخرج عن تلك الآفة السياسية التي ميزت حياة المصريين قرابة قرنين من الزمان وهي تمكين الحلفاء والأعوان وإعادة ترتيب الأوضاع بما يخدم مصالحهم. والتجربة الراهنة كان لابد لها أن تخرج عن ذلك الخط السياسي المتصل عبر قرنين إلا إذا كانت تلك الآفة قد أصبحت واحدة من الجينات السياسية المتوارثة في المجتمع المصري. هذه التجربة جاءت عقب ثورة أطاحت بالنظام الحاكم وبدأت أولي خطواتها علي طريق التحول الديمقراطي الذي يحتم تداول السلطة. ثم إن تجربة الدكتور محمد مرسي تأتي في سياق مختلف في جميع جوانبه السياسية والاجتماعية والاقتصادية والدولية. وهي أخيرا تحكم شعبا لم يكن له نظير في جميع خصائصه طوال حكم الأسرة العلوية أو العسكريين من بعدهم. قد يكون لفظ أخونة الدولة غير مقبول لدي الرئيس وقيادات جماعة الإخوان ولكن الشواهد كثيرة وأوضح من أن تخطئها العين علي أن الدولة المصرية يعاد ترتيبها لمصلحة النخبة الحاكمة حاليا. أي أننا بعد ثورة شعبية نعود لآفة الحياة السياسية المصرية التي سادت البلاد قرنين من الزمان. أما مؤسسة المعارضة السياسية الراهنة فهي في الحقيقة أضعف كثيرا من تلك التي وجدت في بعض سنوات حكم الأسرة العلوية وبعض سنوات حكم العسكريين بعد ثورة يوليو. ومن ينظر إلي اصطفاف رموز المعارضة أمام كاميرات التليفزيون يتناوبون الحديث عن نفس الموضوعات يدرك أنها أقل من أن تنجز تحولا ديمقراطيا حقيقيا في مقبل الأيام. قبل إعلان انتخاب الرئيس كانت قطاعات عريضة من المصريين قد ضجت بحكم المجلس العسكري ورفعت الشعارات المناهضة لحكم العسكر. ولكن الشارع المصري الآن ينادي بعودتهم مرة أخري معربا عن الندم فيما احتج به من قبل ضد الجيش المصري ولم تكد تنقضي بضعة أشهر علي حكم أول رئيس مدني منتخب. نحن أمام نخبة حاكمة ماضية نحو ما تريد وشعب سريع الجزع يحتج علي رئيس وصل إلي الحكم بأصوات غالبيتهم قبل بضعة اشهر وينادي بعودة العسكر لإنقاذ ثورته غير عابئ بمخاطر عودة العسكر مرة أخري. فعودة العسكريين سوف تزيد الموقف تعقيدا حتي من جانب القوات المسلحة التي تجد نفسها في مواجهة موقف مضطرب داخليا وإقليميا وأخطار خارجية ليس لها من بديل في التصدي لها. ليس أمامنا من بديل سوي أن يستمر التفاعل الحر بين قوي المجتمع حتي يفرز المصريون قيادات حاكمة أو معارضة جديدة قادرة علي تحقيق التحول الديمقراطي والنمو الاقتصادي. وأخطر ما يصيب التفاعل الحر في حياة الشعوب هو تحوله إلي نوع من الاحتراب ينتهي إلي بقاء الأقوي في صراع مسلح يوقف التفاعل الحر ويلقي البلاد في حجر ديكتاتور جديد.